وقال ابن خلّكان في ترجمة ابن القوطية : إن أبا علي القالي لمّا دخل الأندلس اجتمع به ، وكان يبالغ في تعظيمه ، قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر : من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة؟ فقال : محمد بن القوطية ، وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العبّاد النّسّاك ، وكان جيّد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلّا أنه تركه ورفضه ، وقال الأديب أبو بكر بن هذيل : إنه توجّه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة ، وهي من بقاع الأرض الطيبة المونقة (١) ، فصادف أبا بكر بن القوطية المذكور صادرا عنها ، وكانت له أيضا هناك ضيعة ، قال : فلما رآني عرّج عليّ ، واستبشر بلقائي ، فقلت مداعبا له : [بحر البسيط]
من أين أقبلت يا من لا شبيه له |
|
ومن هو الشمس والدنيا له فلك |
قال : فتبسّم وأجاب بسرعة : [بحر البسيط]
من منزل تعجب النّسّاك خلوته |
|
وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا (٢) |
فما تمالكت أن قبّلت يده ، إذ كان شيخي ، ودعوت له ، انتهى.
وهو صاحب كتاب «الأفعال» الذي فتح فيه هذا الباب ، فتلاه ابن القطّاع وله كتاب «المقصور والممدود» جمع فيه ما لا يحدّ ولا يعد ، وأعجز من بعده به ، وفاق من تقدّمه ، رحمه الله تعالى ورضي عنه!.
وممّن أخذ عن أبي علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب «مختصر العين» وغيره ، وكان الزبيدي كثيرا ما ينشد : [بحر السريع]
الفقر في أوطاننا غربة |
|
والمال في الغربة أوطان |
والأرض شيء كلّها واحد |
|
والناس إخوان وجيران |
وترجمة الزبيدي واسعة ، وكان مؤدّب المؤيّد هشام ، ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء ، رحمه الله تعالى!.
وكان القالي قد بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه ، ودقّق النظر ، وانتصر للبصريين ، وأملى شيئا من حفظه ككتاب «النوادر» و «الأمالي» ، و «المقصور والممدود» ، و «الإبل والخيل» ، و «البارع في اللغة» نحو خمسة آلاف ورقة ، ولم يصنّف (٣) مثله في الإحاطة
__________________
(١) المونقة : المعجبة.
(٢) الفتاك : جمع فاتك ، وأراد به اللاهي المحب للبطالة واللهو.
(٣) في ب : «لم يصنف» الواو ساقطة.