عذت ، من زمن ظلوم ، ودهر غشوم ، قلّل المال ، وكثر العيال ، وشعث الحال ، فصيّر إلى نداك المآل ، وأنت ولي الحمد والمجد ، والمرجوّ للرّفد ، فقال له عبد الرحمن مسرعا : قد سمعنا مقالتك ، وقضينا حاجتك ، وأمرنا بعونك على دهرك ، على كرهنا لسوء مقامك ، فلا تعوذنّ ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطّلبة ، وإذا ألمّ بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك ، كيما نستر عليك خلّتك (١) ، ونكفّ شمات العدوّ عنك ، بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عزّ وجهه بإخلاف (٢) الدعاء وصدق النيّة ، وأمر له بجائزة حسنة ، وخرج الناس يتعجّبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه ، وكفّ فيما بعد ذوي الحاجات عن مقابلته بها شفاها في مجلسه.
قال ابن حيان : ووقّع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع : أما بعد ، فدعني من معاريض المعاذير ، والتعسّف عن جادة الطريق ، لتمدّنّ يدا إلى الطاعة ، والاعتصام بحبل الجماعة ، أو لأزوينّ بنانها عن رصف المعصية (٣) ، نكالا بما قدمت يداك ، وما الله بظلّام للعبيد.
وفي «المسهب» أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي ، الذي يرتدّ عنه أكثر بني مروان حسيرا.
وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يجب إهماله ، وذلك أنه لمّا سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنيّة ، فأوّل ما بدأ به أن قال : بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لمّا بلغ أقصى أمله. وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة : إنما تعبنا أوّلا لنستريح آخرا ، وما أرانا إلّا في أشدّ ممّا كنّا ، وأطال أمثال هذه الأقوال ، وأكثر الاستراحة في جانبه ، فهجره وأعرض عنه ، فزاد كلامه ، وكتب له رقعة منها : أما كان جزائي في قطع البحر ، وجوب القفر (٤) ، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر ، الذي أهانني في عيون أكفائي ، وأشمت بي أعدائي ، وأضعف أمري
__________________
(١) الخلّة ـ بفتح الخاء ـ الفقر والحاجة.
(٢) في ب : بإخلاص الدعاء.
(٣) لأزوينّ : زواه زيّا : ذهب به. والبنان : أطراف الأصابع ، وكذلك : الرياض الحالية بالزهر ، وكلا المعنيين يصح لوجود الكناية. ورصف المعصية : الرّصف : مجرى الصريح ، أو هو الماء المنحدر من الجبال على الصخر. والمراد بالمعنى العام : التهديد بالقوة.
(٤) جوب القفر : قطعه ، والقفر : الأرض الموحشة الخالية.