ووجد المنصور خفّة فأحضر جماعة بين يديه ، وهو كالخيال لا يبين الكلام (١) ، وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلّم المودع ، وخرجوا من عنده ، فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان ، وأوصى أن يدفن حيث يقبض ، فدفن في قصره بمدينة سالم.
واضطرب العسكر ، وتلوّم ولده أياما (٢) ، وفارقه بعض العسكر إلى هشام ، وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه ، ولبس فتيان المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخزّ.
وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر ، وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه ، وخلع عليه ، وكتب له السجلّ بولاية الحجابة ، وكان الفتيان قد اضطربوا فقوّم (٣) المائل ، وأصلح الفاسد ، وجرت الأمور على السداد ، وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد ، فكان أسعد مولود ولد في الأندلس.
ولنمسك عنان القلم في أمر ابن أبي عامر ، فقد قدّمنا في محلّه جملة من أحواله ، وما ذكرناه هنا وإن كان محلّه ما سبق وبعضه قد تكرّر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد ، والله تعالى ولي التوفيق.
رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي :
وحكي (٤) أنه دخل على المنصور يوم عيد ، وعليه ثياب جدد وخفّ جديد ، فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصف (٥) ، فزلق فسقط في الماء ، فضحك المنصور ، وأمر بإخراجه ، وقد كان البرد أن يأتي عليه ، فخلع عليه ، وأدنى مجلسه ، وقال له : هل حضرك شيء؟ فقال : [بحر الكامل]
شيئان كانا في الزمان عجيبة |
|
ضرط ابن وهب ثم وقعة صاعد |
فاستبرد ما أتى به أبو مروان الكاتب الجزيري ، فقال : هلّا قلت : [بحر المتقارب]
سروري بغرّتك المشرقه |
|
وديمة راحتك المغدقه (٦) |
__________________
(١) لا يبين الكلام : لا يظهره ، ولا يفهم منه.
(٢) تلوم أياما في الأمر : تمكث وانتظر.
(٣) قوّم المائل : عدله.
(٤) في ب : «حكي» ؛ بإسقاط الواو.
(٥) في ب : «في الصحن».
(٦) الديمة : المطر الدائم الذي لا ينقطع. والراحة هنا : اليد. وقد شبه عطاءه بالمطر الدائم غير المنقطع.