وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر ، وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضّة ، وموّهت ذلك كلّه بالمرّي (١) والشهد وغيره والأصباغ المتّخذة بقصر الخلافة ، وكتبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك. ومرّت على صاحب المدينة ، فما شكّ أنه ليس فيها إلّا ما هو عليها ، وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار ، فأحضر ابن أبي عامر جماعة وأعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة ، وأنّ في إضاعتها آفة على المسلمين ، وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه ، فحمل منها خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار ، وكانت صبح قد دافعت عمّا بالقصر من الأموال ، ولم تمكّن من إخراجها ، فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام ، واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة ، فخرست ألسنة العدا (٢) والحسدة ، وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له ، إذ كان منهم من لم يره قطّ ، فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة ، واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى ، وكانت عليه الطويلة والقضيب في يده زيّ الخلافة ، والمنصور يسايره. ثم خرج المنصور لآخر غزواته ، وقد مرض المرض الذي مات فيه ، وواصل شنّ الغارات ، وقويت عليه العلّة ، فاتّخذ له سرير خشب ووطّئ (٣) عليه ما يقعد عليه ، وجعلت عليه ستارة ، وكان يحمل على أعناق الرجال والعساكر تحفّ به ، وكان هجر الأطباء في تلك العلّة لاختلافهم فيها ، وأيقن بالموت ، وكان يقول : إنّ زماني يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالة مني. ولعلّه يعني من حضر تلك الغزاة ، وإلّا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد ـ واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم ، فلمّا أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرّر وصايته (٤) ، وكلّما أراد أن ينصرف يردّه ، وعبد الملك يبكي ، وهو ينكر عليه بكاءه ويقول : وهذا من أول العجز ، وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر.
وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي أبو ذكوان ، فدخلها أول شوّال ، وسكّن الإرجاف (٥) بموت والده ، وعرّف الخليفة كيف تركه.
__________________
(١) المرّي : مستحضرات تستعمل في الأطعمة.
(٢) في ب : «ألسنة الأعداء».
(٣) وطئ عليه : مهد له.
(٤) في ب : وصاته.
(٥) الإرجاف : كثرة الحديث والخوض في الأخبار.