أنك لم تزل بمقتك ، حتى ثقلت على العين طلعتك ، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك ، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك ، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلّا ما أقصرت ، ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق معي الدنيا (١) ، ورأيتك تشكو لفلان وتتألّم من فلان ، وما تقوّلوه عليك ، وما لك عدوّ أكبر من لسانك ، فما طاح بك غيره ، فاقطعه قبل أن يقطعك».
ولمّا فتح الداخل سرقسطة ، وحصل في يده ثائرها الحسين الأنصاري ، وشدخت (٢) رؤوس وجوهها بالعمد ، وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله ، أقبل خواصّه يهنّئونه ، فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند ، فهنّأه بصوت عال ، فقال : والله لو لا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليّ فيه النعمة من هو فوقي فأوجب عليّ ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال ، من تكون حتى تقبل مهنّئا رافعا صوتك غير متلجلج ولا متهيّب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟ وإنّ جهلك ليحملك على العود لمثلها ، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة ، فقال : ولعلّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتّصال جهلي وذنوبي ، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة ، لا أعدمنيه الله تعالى ، فتهلّل وجه الأمير ، وقال : ليس هذا باعتذار جاهل ، ثم قال : نبّهونا على أنفسكم ، إذا لم تجدوا من ينبّهنا عليها ، ورفع مرتبته ، وزاد في عطائه.
ولمّا أنحى (٣) أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال : لا تستأصلوا شأفة أعداء (٤) ترجون صداقتهم ، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم ، يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين.
ولمّا اشتدّ الكرب بين يديه يوم حربه مع الفهري ، ورأى شدّة مقاساة أصحابه ، قال : هذا اليوم هو أسّ ما يبنى عليه ، إمّا ذلّ الدهر وإمّا عزّ الدهر ، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون تربحوا بها بقيّة أعماركم فيما تشتهون.
ولمّا خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر ، فقال : إني محتاج لما يزيد
__________________
(١) في ب : إلى أن تضيق بك معي الدنيا.
(٢) شدخت الرءوس : قطعت وكسرت.
(٣) أنحى عليهم بالقتل : أكثر عليهم القتل ، وأنحى له السلاح : ضربه به.
(٤) استأصل شأفتهم : أبادهم وقضى عليهم.