وقال : عرضنا هذا البائس ـ يعني العلاء ـ للحتف (١) ، ما في هذا الشيطان مطمع ، فالحمد لله الذي صيّر هذا البحر بيننا وبينه.
ولمّا أوقع عبد الرحمن باليمانية الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل فيهم ، استوحش من العرب قاطبة ، وعلم أنهم على دغل (٢) وحقد ، فانحرف عنهم إلى اتّخاذ المماليك ، فوضع يده في الابتياع ، فابتاع موالي الناس بكل ناحية ، واعتضد (٣) أيضا بالبرابر ، ووجّه عنهم إلى برّ العدوة فأحسن لمن وفد عليه إحسانا رغّب من خلفه في المتابعة. قال ابن حيان : واستكثر منهم ومن العبيد ، فاتّخذ أربعين ألف رجل ، صار بهم غالبا على أهل الأندلس من العرب ، فاستقامت مملكته وتوطّدت.
وقال ابن حيان : كان عبدالرحمن راجح الحلم ، فاسح العلم ، ثاقب الفهم ، كثير الحزم ، نافذ العزم ، بريئا من العجز ، سريع النهضة ، متّصل الحركة ، لا يخلد إلى راحة ، ولا يسكن إلى دعة ، ولا يكل الأمور إلى غيره ، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه ، شجاعا ، مقداما ، بعيد الغور ، شديد الحدّة ، قليل الطمأنينة ، بليغّا ، مفوّها ، شاعرا ، محسنا ، سمحا ، سخيّا ، طلق اللسان ، وكان يلبس البياض ويعتمّ به ويؤثره ، وكان قد أعطي هيبة من وليّه وعدوّه ، وكان يحضر الجنائز ، ويصلّي عليها ، ويصلّي بالناس إذا كان حاضرا الجمع والأعياد ، ويخطب على المنبر ، ويعود المرضى ، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم ، إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدّى له في منصرفه عنها رجل متظلّم عامي وقاح ذو عارضة فقال له : أصلح الله الأمير! إنّ قاضيك ظلمني ، وأنا أستجيرك من الظلم ، فقال له : تنصف إن صدقت ، فمدّ الرجل يده إلى عنانه وقال : أيها الأمير ، أسألك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك ، فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه ، فرآهم قليلا ، ودعا بالقاضي ، وأمر بإنصافه ، فلمّا عاد إلى قصره كلّمه بعض رجاله ممّن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى ، فقال له : إنّ هذا الخروج الكثير ـ أبقى الله تعالى الأمير! ـ لا يجمل بالسلطان العزيز ، وإنّ عيون العامّة تخلق تجلته ، ولا تؤمن بوادرهم عليه ، فليس الناس كما عهدوا ، فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل ، ووكّل بذلك ولده هشاما.
ومن نظم عبد الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام : [بحر الخفيف]
__________________
(١) الحتف : الموت.
(٢) على دغل : على فساد سريرة وسوء طوية.
(٣) اعتضد : استعان.