ضاقت عليه الأرض ، وقتله الراحة له ، والراحة منه. فقتله ، واحتزّ رأسه ، وقدم به إلى عبد الرحمن ، فلمّا قرب وأوذن (١) عبد الرحمن به أمره أن يتوقّف به دون جسر قرطبة ، وأمر بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده ، وضمّ إلى رأسه رأسه ، ووضعا على قناتين مشهّرين إلى باب القصر. وكان عبد الرحمن لمّا فرّ يوسف قد سجن وزيره الصّميل لأنه قال له : أين توجه؟ فقال : لا أعلم ، فقال : ما كان ليخرج حتى يعلمك ، ومع ذلك فإنّ ولدك معه ، وأكّد عليه في أن يحضره ، فقال : لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها لك عنه ، فاصنع ما شئت ، فحينئذ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمدا المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن ، فتهيّأ لهما الهرب من نقب ، فأمّا أبو الأسود فنجا سالما ، واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه (٢) ، وأمّا عبدالرحمن فأثقله اللحم فانبهر (٣) ، فردّ إلى الحبس ، حتى قتل كما تقدّم ، وأنف الصميل من الهرب ، فأقام بمكانه ، فلمّا قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصّميل من خنقه ، فأصبح ميتا ، فدخل عليه مشيخة المضرية في السجن ، فوجدوه ميتا ، وبين يديه كأس ونقل (٤) ، كأنه بغت على شرابه ، فقالوا : والله إنّا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها ولكن سقيتها.
وممّا ظهر من بطش الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بأحد دعائم دولته رئيس اليمانية أبي الصباح بن يحيى (٥) ، وكان قد ولّاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به.
ومن ذلك النوع حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي ، إذ ثار بباجة ، وكان قد وصل من إفريقية على أن يظهر الرايات السود بالأندلس ، فدخل في ناس قليلين ، فأرسى بناحية باجة ، ودعا أهلها ومن حولهم ، فاستجاب له خلق كثير ، إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية فهزمه ، وجيء به وبأعلام أصحابه ، فقطع يديه ورجليه ، ثم ضرب عنقه وأعناقهم ، وأمر فقرّطت الصّكاك (٦) في آذانهم بأسمائهم ، وأودعت جوالقا محصنا ، ومعها اللواء الأسود ، وأنفذ بالجوالق تاجرا من ثقاته ، وأمره أن يضعه بمكّة أيام الموسم ، ففعل ، ووافق أبا جعفر المنصور قد حجّ ، فوضعه على باب سرادقه ، فلمّا كشفه ونظر إليه سقط في يده ، واستدعى عبد الرحمن
__________________
(١) أوذن به : أعلم به ، أخبر به.
(٢) مات حتف أنفه : أي مات دون معركة ولا قتال.
(٣) انبهر : انقطع نفسه من الإعياء.
(٤) النقل ما يأكله الشارب مع الشراب من بزور وفواكه وغيرها.
(٥) في ب : أي الصباح ويحيى.
(٦) قرطت الصكاك في آذانهم : أي كتب اسم كل واحد منهم في ورقة وعلقت في أذنه وكأنها قرط.