زمانه ، وينسق ما نسقه من دره ومرجانه ، فهو المعوّل عليه في مشكلات العلوم ، معقولها ومنقولها والمنطوق والمفهوم ، الذي لم تسمح بمثله الأزمان والعصور ، ولم يأت بنظيره تتابع الأعصار والدهور ، من عجز لسان القلم ، عن التصريح باسمه الشريف في هذا الرقم ، لا زالت المدارس مشرقة بإلقائه فيها الدروس ، ولا برحت البقع عامرة بوجوده بعد الدّروس ، ما سطّرت آيات الأشواق في الصحائف والطروس (١) ، وأرسلت من تلميذ إلى أستاذ بسبب نسبته إليه فحصل على المطلوب من شرف النفوس ، هذا ، والذي يبدي لحضرتكم ، وينهي لطلعتكم ، أن الراقم لهذه الصحيفة ، المشرفة ببعض أوصافكم اللطيفة ، المرسلة لساحة فضائلكم المنيفة (٢) ، هو تلميذكم من تشرف بدرسكم ، وافتخر بإجازتكم ، يبدي لكم تلهفه لنيران أشواقه التي التهبت ، وتأسفه على الأيام السالفة مذهبة في خدمتكم لا ذهبت ، وتوجّعه لهذه الأزمان التي استرجعت بالبعد عنه من ذمّته ما وهبت ، وتطلعه إلى ما يشنّف به الأسماع من فضائله التي سلبت العقول وانتهبت ، فلم يزل يسأل الرواة عنها ، ليلتقط منها ، وقد تحقق أن فرائدها لا يلفي لها نظيرا ولا يدرك لها كنها ، وكيف لا ومنها يتعلم الفاضل اللبيب (٣) ، وإليها يفتقر السعيد ويتودد حبيب ، وعليها يعتمد ابن العميد ، ولم تنفك راقية في درج المزيد ، وعبد الحميد عبد الحميد ، وعلم شيخي محيط بصدق محبتي وإخلاصها ، وشدة حرصي على تحصيل فوائد مولانا واقتناصها ، وأنني لا أزال ذاكرا لمحاسنه التي ليست في غيره مجموعة ، ومتطفلا على ثمار أفكاره التي هي لا مقطوعة ولا ممنوعة ، وخاطره الشريف على الحقيقة يشهد بذلك ، فلا يحتاج هذا العبد إلى بينة لدى مولانا الأستاذ المالك ، وحقيق على من فارق تلك الأخلاق الغرّ ، والشمائل الزّهر ، والعشرة المعشوقة ، والسجايا الموموقة ، والفضائل الموفورة ، والمآثر المشهورة ، أن يشق جيب الصبر ، ويجعل النار حشو الصدر : [بحر الطويل]
وإني لتعروني لذكراك هزّة |
|
كما انتفض العصفور بلله القطر (٤) |
ولو ملكت مرادي ، لما اخضرّ إلا في ذراه مرادي (٥) ، بل لو دار الفلك على اختياري ،
__________________
(١) الطروس : جمع طرس وهو الصحيفة.
(٢) المنيفة : العالية الرفيعة القدر.
(٣) ورّى بأسماء جماعة ممن اشتهروا بجودة النثر والنظم ؛ فورى بالفاضل اللبيب عن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني ، وبالسعيد عن القاضي السعيد المعروف بابن سناء الملك ، وبحبيب عن أبي تمام حبيب بن أوس الطائي ، وبابن العميد عن الكاتب الأشهر أبي الفضل محمد بن الحسين ، وبعبد الحميد عن عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
(٤) البيت لأبي صخر الهذلي (ديوان الهذليين ص ٩٣٠).
(٥) الذرى ، بفتح الذال : الدار.