معنى الوراثة لمن سبق ، فكل حي هو خلف عن سلفه. والأمة خلف عن أمة كانت قبلها جيلا بعد جيل. وهذا كقوله تعالى حكاية لقول نوح (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١]. وهذه مرتبة التحسيني.
وقد جمعت الآية الإشارة إلى مراتب المناسب وهو ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا وهو من مسالك العلة في أصول الفقه.
ولما اقتضته الخلافة من تجدد الأبناء عقب الآباء والأجيال بعد الأجيال ، وما اقتضته الاستجابة وكشف السوء من كثرة الداعين والمستائين عبر في أفعال الجعل التي تعلقت بها بصيغة المضارع الدال على التجدد بخلاف أفعال الجعل الأربعة التي في الآية قبلها.
ثم استؤنف عقب هذا الاستدلال باستفهام إنكاري تكريرا لما تقدم عقب الأدلة السابقة زيادة في تعداد خطئهم بقوله (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).
وانتصب (قَلِيلاً) على الحال من ضمير الخطاب في قوله (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي فعل ذلك لكم وأنتم في حال قلة تذكركم ، فتفيد الحال معنى التعجب من حالهم.
والتذكر : من الذّكر بضم الذال وهو ضد النسيان فهو استحضار المعلوم ، أي قليلا استحضاركم الافتقار إلى الله وما أنتم فيه من إنعامه فتهتدوا بأنه الحقيق بأن لا تشركوا معه غيره. فالمقصود من التذكر التذكر المفيد استدلالا. و (ما) مصدرية والمصدر هو فاعل (قَلِيلاً).
والقليل هنا مكنّى به عن المعدوم لأن التذكر المقصود معدوم منهم ، والكناية بالقليل عن المعدوم مستعملة في كلامهم. وهذه الكناية تلميح وتعريض ، أي إن كنتم تذكرون فإن تذكركم قليل.
وأصل (تَذَكَّرُونَ) تتذكرون فأدغمت تاء التفعل في الذال لتقارب مخرجيهما تخفيفا وهو إدغام سماعي.
وقرأ الجمهور (تَذَكَّرُونَ) بتاء الخطاب. وقرأه روح عن أبي عمرو وهشام عن ابن عامر بياء الغيبة على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، ففي قراءة الجمهور نكتة توجيه الخطاب إلى المشركين مكافحة لهم ، وفي قراءة روح وهشام نكتة الإعراض عنهم لأنهم استأهلوا الإعراض بعد تذكرهم.