جعل الليل سكنا. وفيه دلالة على أن لا إحالة ولا استبعاد في البعث بعد الموت ، وأنه نظير بعث اليقظة بعد النوم ، وفي جليل تلك الآيات ودقيقها عدة آيات فهذا وجه جعل ذلك آيات ولم يجعل آيتين.
ومعنى (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لناس شأنهم الإيمان والاعتراف بالحجة ولذلك جعل الإيمان صفة جارية على قوم لما قلناه غير مرة من أن إناطة الحكم بلفظ (قوم) يومئ إلى أن ذلك الحكم متمكن منهم حتى كأنه من مقومات قوميتهم ومنه قوله تعالى (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة : ٥٦] ، أي الفرق من مقومات قوميتهم فكيف يكونون منكم وأنتم لا تفرقون ، أي في ذلك آيات لمن من شعارهم التدبر والاتصاف ، أي فهؤلاء ليسوا بتلك المثابة.
ولكون الإيمان مقصودا به أنه مرجو منهم جيء فيه بصيغة المضارع إذ ليس المقصود أن في ذلك آيات للذين آمنوا لأن ذلك حاصل بالفحوى والأولوية ، فصار المعنى : أن في ذلك لآيات للمؤمنين ولمن يرجى منهم الإيمان عند النظر في الأدلة. وقريب من هذا المعنى قوله تعالى (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير : ٢٧ ، ٨]. ولهذا خولف بين ما هنا وبين ما في سورة يونس [٦٧] إذ قال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) لأن آية يونس مسوقة مساق الاستدلال والامتنان فخاطب بها جميع الناس من مؤمن وكافر فجاءت بصيغة الخطاب ، وجعلت دلالتها لكل من يسمع أدلة القرآن فمنهم مهتد وضال ولذلك جيء فيها بفعل (يَسْمَعُونَ) [يونس : ٦٧] المؤذن بالامتثال والإقبال على طلب الهدى.
وأما هذه الآية فمسوقة مساق التعجيب والتوبيخ فجعل ما فيها آيات لمن الإيمان من شأنهم ليفيد بمفهومه أنه لا تحصل منه دلالة لمن ليس من شأنهم الانصاف والاعتراف ولذلك أوثر فيه فعل (يُؤْمِنُونَ).
وجاء ما في الليل من الخصوصية بصيغة التعليل باللام بقوله (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) ، وما في النهار بصيغة مفعول الجعل بقوله (مُبْصِراً) تفننا ، ولما يفيده (مُبْصِراً) من المبالغة.
والمعنى على التعليل والمفعول واحد في المآل. وبهذا قال في «الكشاف» «التقابل مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف» أي ففي الآية احتباك إذ المعن : جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه.
واعلم أن ما قرر هنا يأتي في آية سورة يونس عدا ما هو من وجوه الفروق البلاغية