فأول راض سنة من يسيرها
عندي هو محمل قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي لا لاتّخذت أبا بكر خليلا» فإن مقام النبوءة يستدعي من الأخلاق ما هو فوق مكارم الأخلاق المتعارفة في الناس فلا يليق به إلا متابعة ما لله من الكمالات بقدر الطاقة ولهذا قالت عائشة : كان خلقه القرآن. وعلمنا بهذا أن أبا بكر أفضل الأمة مكارم أخلاق بعد النبي صلىاللهعليهوسلم لأن النبي جعله المخيّر لخلته لو كان متّخذا خليلا غير الله.
وجملة (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) تعليلية لتمنّيه أن لا يكون اتخذ فلانا خليلا بأنه قد صدر عن خلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه.
وقوله : (أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) معناه سوّل لي الانصراف عن الحق. والضلال : إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقا غير المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده ، وإنما وقع في أرض العدوّ أو في مسبعة. ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهدى (الذي هو إصابة الطريق) لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقيان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال ، ولذلك سموا الدليل الذي يسلك بالركب الطريق المقصود هاديا.
والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعارة السبيل لهدى الرسول وليس مستعملا هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف (عَنِ) في قوله : (عَنِ الذِّكْرِ) فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق. ففي قوله : (أَضَلَّنِي) مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصل إلى المنجى ، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية ، فهذه نكت من بلاغة نظم الآية.
و (الذِّكْرِ) : هو القرآن ، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه.
والمجيء في قوله : (إِذْ جاءَنِي) مستعمل في إسماعه القرآن فكأنّ القرآن جاء حلّ عنده. ومنه قولهم : أتاني نبأ كذا ، قال النابغة :
أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنك لمتني
فإذا حمل الظالم في قوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) على معيّن وهو عقبة بن