وأما الكبرى : فبديهية ، لان بديهة العقل حاكمة بأن أمثال ذلك لم يصدر الا عمن له علم ، وان صدر فلا يمكن أن يتكرر منه مرة بعد أخرى ، فان من يكتب مرارا خطا حسنا لا يمكن أن يتصور أنه أمي جاهل بالخط ، مع أنه لا نسبة لما في ذلك الخط من الاحكام والاتقان الى ما في أقل شيء من أفعال الله تعالى فاذا كان العلم الضروري حاصل هناك فهنا أولى.
ان قلت : الكبرى منقوضة بالنحل فانه يبني بيتا مسدسا تعجز عنه الحذاق في الهندسة ، والعنكبوت فانه يبني بيتا في غاية الاحكام ، والنمل فانه يصدر عنه أفعال محكمة ، وسائر الحيوانات فانه يصدر عنه أفعال عجيبة لطيفة ، مع أنه لا شيء منها بعالم. وينتقض أيضا بالمحتدي (١) لفعل غيره ، كمن ينقش نقشا محكما محتديا بنقش النقاش ، فانه يفعل فعلا محكما مع أنه غير عالم بالنقش.
قلت : الجواب عن الاول من وجوه الاول : نمنع كون تلك الحيوانات فاعلة لما ذكرت ، بل الفاعل في الحقيقة هو الله كما يقوله الاشعري ، أو أن الفاعل بالطبع ليس فاعلا بالحقيقة ، بل هو فعل الله لانه فاعل السبب ، فيكون فاعلا للمسبب.
الثاني : سلمنا كونها فاعلة ، لكن نمنع كونها غير عالمة بما يصدر عنها ، بل هي شاعرة بأفعالها كلها ، لا بد لنفي ذلك من دليل.
الثالث : سلمنا أنها غير عالمة ، لكن خلق مثل هذه الحيوانات محكم ، والهامها فعل هذه الأفعال أحكم من ايجادها من غير توسط.
وعن الثاني لا نسلم أن المحتدي فاعل حقيقة ، اذ هو ليس مستقلا في فعله المحكم بل بمشاركة المحتدي ، ولذلك لو انفرد لم يأت بشيء يعبأ به ، فالنقض به غير وارد ، سلمنا لكنه صادر منه على وجه الندرة ، ومرادنا بكون كل من صدر
__________________
(١) أى المتابع لفعل غيره.