واستدل المصنف على وجوبها بطريقين :
الاول : طريقة الحكماء وتقريرها أن نقول : كلما كان صلاح النوع مطلوبا لله تعالى كانت الشريعة واجبة ، وكلما كانت الشريعة واجبة كانت البعثة واجبة فكلما كان صلاح النوع مطلوبا فالبعثة واجبة. أما بيان حقيقة المقدم من الشرطية الاولى فظاهرة.
وأما بيانها (١) : فلان الانسان مدني بالطبع ، بمعنى أنه لا يمكن أن يعيش وحده كغيره من الحيوانات ، وذلك لافتقاره في معاشه الى أمور كثيرة لا يتم نظام حاله الا بها ، كالمأكل والملبس والمسكن له ولمن يتعلق به ، وكان مما يتعذر عليه تحصيلها بجملتها ، والا لازدحم على الواحد كثيرا ، وكان مما يتعسران أمكن ، فاقتضى ذلك وجود جماعة يفزع كل واحد لصاحبه عن مهمه ، كالحداد يصنع للحطاب قدوما (٢) يقطع به الحطب والحطاب يأتيه بحطب يلين بسببه الحديد وتصنع منه الآلات ليستعملها الزراعون وغيرهم ، وكذا في باقي المنافع.
ثم ان الاجتماع مظنة النزاع ، لان التغلب موجود في الطباع ، لان كل أحد يرى العمل بمقتضى شهوته وارادته دون الاخر ، ويرى حفظ ماله واستيلاؤه عليه وبطلان حق غيره عليه ، ويغضب على من يزاحمه ، فتدعونه (٣) شهوته وغضبه الى المنازعة ، فيقع الهرج والمرج وهلاك النوع وفساده ، ومنشأ ذلك كله من خلوهم من معاملة وعدل ، وأمور يتفق (٤) عليها بينهم ، بحيث يرجعون إليها عند منازعتهم ومجاذبتهم ، فيجب وجود تلك المعاملة والعدل. ثم ان
__________________
(١) فى «ن» : وأما ثانيها.
(٢) القدوم جمع قدم وقدائم : آله للنحت والنجر.
(٣) فى «ن» : فتدعوه.
(٤) فى «ن» : متفق.