فصل
من أراد أن يصفو تسبيحه
وأولى الأشياء لمن يريد أن يصفو تسبيحه أن يجرد قلبه من الأغيار ، ويصون سره عن التدنس بالآثار ، ومساكنة الأشكال والأمثال ، عند هجوم الأشغال ، فإن قيمة توحيد الرجل وقدر معرفته تتبين عند الصدمة الأولى فيما يحل به من البلاء ، فإن فزع إلى الأغيار بقلبه وعلق بالأجناس خواطر لبه ورأى من المخلوقين كشف طوارق كربه ولم يرجع إلا بعد اليأس من الخلائق إلى ربه ، علم تقاصر رتبته ، وخساسة منزلته ، وبعده من الله فى خصائص حفظه وعصمته.
ومن أعرض عن الأسباب ، ولم يعرج على الاستعانة بالأحباب ، ولم ينثن بقلبه فى اعتقاده واستناده إلى الأصحاب ، كفى المهمات ، وخيرت له الخيرات ، وتنكبته الآفات ، ومن صح بالله توسله ، وحق على الله توكله ، كفته كفاية ربه وتفضله.
وقد حكى عن بعض المشايخ أنه قال : كنت أخدم شيخا بطرسوس ، فولدت له بنية فى آخر عمره ، فلما قربت وفاته استوصيته فيها ، فقال لى : تحملها إلى مكة فى الموسم وتدعها فى الحجر وتنصرف ، فلما توفى الشيخ امتثلت أمره ، وكنت أنظر من بعيد أرقب حالها كيف يصير؟ فمر بها خادم للخليفة فاستحسنها وأخذها ، فدخلت بغداد بعد ذلك بمدة طويلة فرأيت البلد قد زين ، فسألت عن السبب فقيل : إن خادما للخليفة رجع بصبية من الحج التقطها فاستظرفتها أم الخليفة فتبنتها ، فلما كبرت زوجتها من ابن الوزير وجهزتها بعشرين ألف دينار ، فعلمت عند ذلك صدق إشارة ذلك الشيخ (١).
__________________
(١) واقرأ تفسير قوله تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) من سورة الكهف.