الفرقة في صفوف المسلمين.
فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات ، ويؤججوا نيران العداء القديم بين الأوس والخزرج الذي زال بفضل الاسلام ، وبفضل ما أرساه من قواعد الاخوة والمساواة والمواساة والمحبة ، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة وعشرين عاما متوالية ، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم ، والتي من شأنها ابتلاع الاخضر واليابس والقضاء على الجميع دون ما استثناء.
ففيما كان نفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم « شاس بن قيس » وهو يهودي شديد العداء للإسلام ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، فغاظه ما رأى من الفة الأوس والخزرج ، واجتماعهم وتواددهم ، وصلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية ، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث (١) وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار ، وإثارة لنيران الاحقاد الدفينة ، والعداوات الغابرة.
ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به « شاس » فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، وتواثب رجلان من القبيلتين على الركب وأخذ كل منهما يهدّد الآخر ، وتفاقم النزاع ، وغضب الفريقان وتصايحا ، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتال ودم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوآله وعرف بمكيدة اليهود ، ومؤامرتهم الخبيثة هذه ، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من أصحابه المهاجرين فقال :
__________________
(١) قد مرّ ذكر هذه الوقعة وقلنا : هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.