من الفرش طبري فوثب إلينا منه فتى مقتبل الشبيبة ، حسن الصورة ، ظاهر النبل والهيئة ، متزيّ (١) من اللباس [بزي غلامه] فلقيني حافيا يعثر في سراويله ، واعتنقني ثم قال لي : إنما استخدمت هذا الغلام في تلقيك يا سيدي لأجعل ما لعلك استحسنته من وجهه مصانعا عما ترد عليه من قبح وجهي ، فاستظرفت اختصاره الطريق إلى بسطي ، وارتجاله النادرة على نفسه حرصا في تأنيسي ، وأفاض في شكري على المسارعة إلى أمره ، وأنا واصل خلل سكناته بالتعبد له ، والمبالغة في الاعتداد به بتفضله وقال لي : أنت يا سيدي مكدود بمن كان معك والاستمتاع بمحادثتك لا يتم إلا بالتوصل إلى راحتك ، وقد كان الأمر على ما ذكر ، فاستلقيت يسيرا ثم نهضت فخدمت في حالتي النوم واليقظة الخدمة التي ألفتها في دور أكابر الملوك وجلة الرؤساء ، وأحضرنا خادم له لم أر أحسن وجها ولا سوادا منه طبقا يضم ما يتخذ للعشاء مما خف وظرف ، فقال لي : الأكل مني يا سيدي للجوع ، ومنك للممالحة والمساعدة ، فنلنا شيئا ، وأقبل الليل ففتحت مناظر ذلك البيت إلى فضاء أدى إلينا محاسن الغوطة ، وحبانا بذخائر رياضها من المنظر الجناني والنسيم العطري ، واقتعدنا غارب اللذة ، وجرينا في ميدان المفاوضة فلم يزل يناهبني نوادر الأخبار وملح الأشعار ، ونخلط ذلك من المزاح بأظرفه ، ومن التودد بألطفه ثم قال لي : أنا والله يا سيدي أحب ترفيهك ولا أبطأ عما أنت متوفر عليه فقد عرفت الاسم والنسب والصناعة واللقب وقد كنت أوثر أن نسمة ليلتنا بشيء يكون لها طررا ، ولذكرها معلما ، فأخذت دواة وكتبت ارتجالا :
وليلة أوسعتني |
|
حسنا ولهوا وأنسا |
إذا طلع الدير سعدا |
|
لم يبق مذ لاح (٢) نحسا |
فصار للروح مني |
|
روحا وللنفس نفسا |
فطرب على قولي : «للروح روحا وللنفس نفسا» وأخذ الأبيات وجعل يرددها ثم جذب دواة وكتب إجازة لها :
ولم أكن لغريمي |
|
والله أبذل فلسا |
لو ارتضى لي خصمي |
|
بدير مران حبسا |
ودفعه إليّ فقلت له : إذا ما كان والله أحد يؤدي حقا ولا باطلا وعرفت في الجملة أنه
__________________
(١) بالأصل : متزين ، والمثبت عن يتيمة الدهر.
(٢) في يتيمة الدهر : بان.