وظلمة المشيمة ، يدرّ الله عليه رزقه في جوف ظلمة البطن ، فإذا خرج من البطن وقع في اللبن لا يسعى إليه بقدم ، ولا يتناوله بيد ، ولا ينهض إليه بقوة ، بل يكره عليه حتى يرتفع عن اللبن وينظم ويقع في المنزلة الثالثة بين أبويه ، يكسيان عليه ، فإذا ماتا تركاه يتيما ، فعطف عليه الناس ، يطعمه هذا ويكسوه هذا رحمة لله ، وكذلك الله تعالى لا يناوله الله العباد شيئا من يده إلى أيديهم ، ولكن يرزقهم وينزل عليهم من خزائن ما عنده ، على يدي عباده بقدر ما يشاء ، حتى إذا بلغ منزلته الرابعة واستوى خلقه واجتمع وكان رجلا خشي أن لا يرزقه الله اجترأ على الحرام ، وعدا على الناس فقتلهم على الدنيا ، فسبحان الله ما أبعد هذين الأمرين (١) بعضهما من بعض يحسن ظنه بالله وهو صغير وإذا كبر ساء ظنه فأوثق نفسه في طلب ما كفل له به.
يا معشر الحواريين ، اعتبروا بالطير يطير في جو السماء ، هل رأيتم طيرا قط يدخر بالأمس رزق غد؟ ألم تروه (٢) يأوي إلى وكره بغير شيء ادّخره ثم يصبح غاديا (٣) مستبشرا فيعرض له رزقه ، ثم يرجع كذلك إلى وكره ، وكذلك البهائم والسباع والحيتان والوحوش ، وابن آدم يدّخر رزق الأبد في يوم لو قدر عليه ، ولو فارق الدنيا وعاين الآخرة لندم ندامة لا تغني عنه شيئا.
يا معشر الحواريين ، إن أبغض العلماء والقرّاء إلى الله الذين يحبون أن يسودوا في المجالس ، ويذكروا عند الطعام ، ويشار إليهم بالأصابع الذين يفرغون جرايب (٤) الأرامل أولئك يضاعف الله لهم العذاب ، يا معشر الحواريين ، بحقّ أقول لكم ما الدنيا تحبون ولا الآخرة ترجون ، ولو كنتم تحبون الدنيا عملتم العمل الذي تدركون به الدنيا ، ولو كنتم ترجون الآخرة لعملتم العمل الذي تدركون به الآخرة ، بحق أقول لكم أمسيتم في زمان كلامهم كلام الأنبياء ، وفضلهم فضل السفهاء ، كلامكم دواء يبرئ الداء وقلوبكم داء لا تقبل الدواء ، فقد قتلتم أنفسكم على حب الدنيا ، قلوبكم تتلقى من أعمالكم وأعمالكم لا تتلقى من ذنوبكم ، اعلموا أن هذه الأرض تحمل الجبال ، وهذه الجبال تمسك الأرض ، وأجسادكم تحمل قلوبكم ، وقلوبكم لا تمسك أجسادكم ، بحب الدنيا زاغت فمالت بكم ، سحرت الدنيا
__________________
(١) بالأصل : الأمر.
(٢) غير واضحة بالأصل.
(٣) بالأصل : عاديا.
(٤) كذا بالأصل ، ولعله تصحيف جرب جمع جراب أو أجربة ، والجراب المزود أو الوعاء ، (القاموس).