تعصبه للإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه التعصب المتين ، قال : حكي لي أنه قال لقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة : إن عليا رضي الله تعالى عنه عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ، أتراه ما صدق في هذا! فقال : صدق ، قال فقلت له : فالذين سلّوا السيوف في وجهه يبغضونه أو يحبونه أو غير ذلك؟ قال : وكان سيّىء (١) الظن بالناس كافة ، فإذا نقل له عن أحد خبر (٢) لا يتكيف به وينثني عنه حتى عمن هو عنده مجروح ، فيقع في ذم من هو بألسنة العالم ممدوح ، ، وبسبب ذلك وقع في نفس جمع كبير ، منه ألم كثير ، انتهى.
قلت : أنا لم أسمع منه في حق أحد من الأحياء والأموات إلا خيرا ، وما كنت أنقم عليه شيئا إلا ما كان يبلغني عنه من الحط على الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، على أنني أنا ما سمعت في حقه شيئا ، نعم كان لا يثق بهؤلاء الذين يدعون الصلاح حتى قلت له يوما : يا سيدي ، فكيف تعمل في الشيخ أبي مدين؟ فقال : هو رجل مسلم دين ، وإلا ما كان يطير في الهواء ، ولا يصلي الصلوات الخمس في مكة كما يدعي فيه هؤلاء الأغمار.
وكان فيه ـ رحمه الله تعالى! ـ خشوع يبكي إذا سمع القرآن ، ويجري دمعه عند سماع الأشعار الغزلية ، وقال كمال الدين المذكور : قال لي : إذا قرأت أشعار العشق أميل إليها ، وكذلك أشعار الشجاعة تستميلني ، وغيرهما ، إلا أشعار الكرم ما تؤثر فيّ ، انتهى.
قلت : كان يفتخر بالبخل ، كما يفتخر غيره بالكرم ، وكان يقول لي : أوصيك احفظ دراهمك ويقال عنك بخيل ، ولا تحتج إلى السفل.
وأنشدني من لفظه لنفسه : [بحر الطويل]
رجاؤك فلسا قد غدا في حبائلي |
|
قنيصا رجاء للنّتاج من العقم |
أأتعب في تحصيله وأضيعه |
|
إذن كنت معتاضا من البرء بالسقم (٣) |
قلت : والذي أراه فيه أنه طال عمره ، وتغرب ، وورد البلاد ولا شيء معه ، وتعب حتى حصل المناصب تعبا كثيرا ، وكان قد جرب الناس ، وحلب أشطر الدهر (٤) ومرت به حوادث ،
__________________
(١) في أ«يسيء».
(٢) كذا في أ ، ب ، ج. وفي ه : «خير».
(٣) في ه : «إذن كنت معتاضا عن البرء بالسقم».
(٤) حلب أشطر الدهر : أي جرب الأيام وعركها وعركته.