وقال رحمه الله تعالى في هذا الشرح بعد كلام ما نصه : وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي : كيف جاء إلى قصر مشيد ، ومحل سرور جديد ، فخاطبه بما يخاطب به الطلول البالية ، والمنازل الدارسة الخالية ، فقال :
يا دار غيّرك البلى ومحاك
فأحزن في موضع السرور ، وأجرى كلامه على عكس الأمور ، وانظر إلى قول القطامي : [بحر البسيط]
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل |
|
وإن بليت وإن طالت بك الطّيل (١) |
فانظر كيف جاء إلى طلل بال ، ورسم خال ، فأحسن حين حياه ، ودعا له بالسلامة ، كالمبتهج برؤية محيّاه ، فلم يذكر دروس الطلل وبلاه ، حتى آنس المسامع بأوفى التحية وأزكى السلامة ، والذي فتح هذا الباب ، وأطنب فيه غاية الإطناب ، صاحب اللواء ، ومقدم الشعراء (٢) ، حيث قال : [بحر الطويل]
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي |
|
وهل يعمن من كان في العصر الخالي |
وهل يعمن إلا سعيد مخلد |
|
قليل هموم ما يبيت بأوجال |
قيل : وهذا البيت الأخير يحسن أن يكون من أوصاف الجنة ، لأن السعادة والخلود وقلة الهموم والأوجال لا توجد إلا في الجنة ، انتهى.
وقال رحمه الله تعالى عند رحيله من غرناطة وأعلام نجد تلوح ، وحمائمه تشدو على الأيك وتنوح : [بحر الطويل]
ولما وقفنا للوداع وقد بدت |
|
قباب بنجد قد علت ذلك الوادي |
نظرت فألفيت السبيكة فضة |
|
لحسن بياض الزهر في ذلك النادي |
فلما كستها الشمس عاد لجينها |
|
لها ذهبا فاعجب لإكسيرها البادي (٣) |
والسبيكة : موضع خارج غرناطة.
وقال رحمه الله : [بحر الخفيف]
هذه عشرة تقضّت وعندي |
|
من أليم البعاد شوق شديد |
__________________
(١) الطّيل والطّول واحدة ، وهو الحبل الطويل يربط في وتد ويطول للدابة لترعى.
(٢) صاحب اللواء ومقدم الشعراء هو امرؤ القيس ، وأشار هنا إلى الحديث الشريف «امرؤ القيس حامل لواء الشعراء إلى النار».
(٣) اللجين : الفضة.