السود (١) عليها منحطة ، وأخ لي حدث (٢) السنّ كان معي يشتدّ (٣) هاربا ويقول لي : النجاء يا أخي ، فهذه رايات المسوّدة ، فضربت بيدي على دنانير تناولتها ، ونجوت بنفسي والصبي أخي معي ، وأعلمت أخواتي بمتوجّهي (٤) ومكان مقصدي ، وأمرتهنّ أن يلحقنني ومولاي بدر معهنّ ، وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية ، فما كان إلّا ساعة حتى أقبلت الخيل ، فأحاطت بالدار ، فلم تجد أثرا ، ومضيت ، ولحقني بدر ، فأتيت رجلا من معارفي بشطّ الفرات ، فأمرته أن يبتاع لي دوابّ وما يصلح لسفري ، فدلّ عليّ عبد سوء له العامل ، فما راعنا إلّا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا في الهرب ، فسبقناها إلى الفرات ، فرمينا فيه بأنفسنا ، والخيل تنادينا من الشط : ارجعا لا بأس عليكما ، فسبحت حاثّا لنفسي وكنت أحسن السبح ، وسبح الغلام أخي ، فلمّا قطعنا نصف الفرات قصّر أخي ودهش ، فالتفتّ إليه لأقوّي من قلبه ، وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه ، فناديته : تقتل يا أخي ، إليّ ، إليّ ، فلم يسمعني ، وإذا هو قد اغتر بأمانهم ، وخشي الغرق ، فاستعجل الانقلاب نحوهم ، وقطعت أنا الفرات ، وبعضهم قد همّ بالتجرّد للسباحة في أثري ، فاستكفّه أصحابه عن ذلك ، فتركوني ، ثم قدّموا الصبيّ أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه ، ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فاحتملت فيه ثكلا ملأني مخافة ، ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساع على قدميّ ، فلجأت إلى غيضة آشبة (٥) ، فتواريت فيها حتى انقطع الطلب ، ثم خرجت أؤمّ المغرب حتى وصلت إلى إفريقية.
قال ابن حيان : وسار حتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أمّ الأصبغ مولاه بدرا ، ومولاه سالما ، ومعهما دنانير للنفقة ، وقطعة من جوهر ، فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من فلّ (٦) بني أمية ، وكان عند واليها عبد الرحمن بن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب مسلمة بن عبد الملك (٧) ، وكان يتكهّن له ويخبره بتغلّب القرشي المرواني الذي هو من أبناء ملوك القوم ، واسمه عبد الرحمن ، وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها عقبه ، فاتّخذ
__________________
(١) الرايات السود : هي رايات الثورة العباسية ، بينما كانت رايات الأمويين بيضاء.
(٢) في ب : حديث السن.
(٣) يشتد : يسرع في جريه.
(٤) متوجّهي : المكان الذي أتوجه إليه ، وهي اسم مكان من الفعل توجه.
(٥) غيضة آشبة : كثيرة الشجر الملتف.
(٦) الفل : الجماعة المنهزمون.
(٧) قيل إن مسلمة بن عبد الملك كان يخبر بأمور من الحدثان والملاحم ، وكان يرى أن دولة بني أمية قد اقتربت نهايتها وسيذكر المقري في هذا الكتاب شيئا من هذا.