فيسقي بستانا ، وفي القصر من الأطيار ، ما يغني صوته عن العود والمزمار ، فاستحسن المأمون ما رأى ، وعزم على الصّبوح (١) ، فدعا بالطعام فأكلنا وشربنا ، ثم قال لي : غنّ بأطيب صوت وأطربه ، فلم يمرّ على خاطري غير هذا الصوت : [بحر المنسرح]
لو كان حولي بنو أمية لم |
|
ينطق رجال أراهم نطقوا |
فنظر إليّ مغضبا ، وقال : عليك لعنة الله وعلى بني أمية! فعلمت أني قد أخطأت ، فجعلت أعتذر من هفوتي ، وقلت : يا أمير المؤمنين ، أتلومني أن أذكر مواليّ بني أمية ، وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس ، يركب في أكثر من مائة مملوك وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع ، وإني عندكم أموت جوعا ، وفي الحكاية طول واختلاف ، ومحلّ الحاجة منها ما يتعلّق بزرياب ، رحم الله تعالى الجميع!.
وذكرها الرقيق في كتاب «معاقرة الشراب» على غير هذا الوجه ، ونصّه : وركب المأمون يوما من دمشق يريد جبل الثلج ، فمرّ ببركة عظيمة من برك بني أمية ، وعلى جانبها أربع سروات ، وكان الماء يدخل سيحا (٢) ، فاستحسن المأمون الموضع ، ودعا بالطعام والشراب ، وذكر بني أمية ، فوضع منهم وتنقّصهم ، فأخذ علويه العود واندفع يغني : [بحر الطويل]
أرى أسرتي في كلّ يوم وليلة |
|
يروح بهم داعي المنون ويغتدي (٣) |
أولئك قوم بعد عزّ وثروة |
|
تفانوا فإلّا أذرف العين أكمد (٤) |
فضرب المأمون بكأسه الأرض ، وقال لعلويه : يا ابن الفاعلة ، لم يكن لك وقت تذكر مواليك فيه إلّا هذا الوقت؟ فقال : مولاكم زرياب عند مواليّ بالأندلس يركب في مائة غلام ، وأنا عندكم بهذه الحالة ، فغضب عليه نحو شهر ، ثم رضي عنه ، انتهى.
ونحوه لابن الرقيق في كتابه «قطب السرور» وقال في آخر الحكاية : وأنا عندكم أموت من الجوع ، ثم قال : وزرياب مولى المهدي ، ووصل إلى بني أمية بالأندلس فعلت حاله ، حتى كان كما قال علويه ، انتهى.
ولمّا غنّى زرياب (٥) بقوله : [بحر الطويل]
__________________
(١) الصبوح : ما يؤكل أو يشرب في الصباح.
(٢) سيحا : أي جاريا على وجه الأرض.
(٣) المنون : الموت.
(٤) فإلّا : فإن لا. وأكمد : أحزن حزنا شديدا.
(٥) في ه : «ولما غنى ابن زرياب» والشعر لذي الرمّة في ديوانه ص ٣٥٢.