وعطف (فَظَلَّتْ) وهو ماض على المضارع قوله : (نُنَزِّلْ) لأن المعطوف عليه جواب شرط ، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال ؛ ألا ترى أنه لو قيل : إن شئنا نزّلنا أو إن نشأ نزّلنا ، لكان سواء إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارعيّة والماضوية ، على أن المعطوفات يتّسع فيها ما لا يتّسع في المعطوف عليها لقاعدة : أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من «مغني اللبيب» ، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز ، وهي هنا أمران : التفنّن بين الصيغتين ، وتقريب زمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتمّ ذلك سريعا حتى يخيّل لهم من سرعة حصوله أنه أمر مضى فلذلك قال : (فَظَلَّتْ) ولم يقل : فتظل. وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وكلاهما للتهديد ، ونظيره لقصد التشويق : قد قامت الصلاة.
والخضوع : التطامن والتواضع. ويستعمل في الانقياد مجازا لأن الانقياد من أسباب الخضوع. وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي ، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رءوسهم فهم يطأطئون رءوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم.
والأعناق : جمع عنق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة ، وهو مؤنث. وقيل : المضموم النون مؤنث ، والساكن النون مذكر.
ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) [طه : ١٠٨] أي أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى :
(كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا) |
|
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق |
فأسند الفرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخيفة. ومنه قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) [الأعراف : ١١٦] وإنما سحروا الناس سحرا ناشئا عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم ، مع ما يزيد به قوله : «ظلت أعناقهم لها خاضعين» من الإشارة إلى تمثيل حالهم ، ومقتضى الظاهر فظلوا لها خاضعين بأعناقهم.