لما أفاد الاستفهام في قوله : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً) [الشعراء : ١٢٨] معنى الإنكار على ما قارن بناءهم الآيات واتخاذهم المصانع وعلى شدتهم على الناس عند الغضب فرع عليه أمرهم باتقاء الله ، وحصل مع ذلك التفريع تكرير جملة الأمر بالتقوى والطاعة.
وحذف ياء المتكلم من (أَطِيعُونِ) كحذفها في نظيرها المتقدم. وأعيد فعل (وَاتَّقُوا) وهو مستغنى عنه لو اقتصر على الموصول وصفا لاسم الجلالة لأن ظاهر النظم أن يقال : فاتقوا الله الذي أمدّكم بما تعلمون ، فعدل عن مقتضى الظاهر وبني الكلام على عطف الأمر بالتقوى على الأمر الذي قبله تأكيدا له واهتماما بالأمر بالتقوى مع أن ما عرض من الفصل بين الصفة والموصوف بجملة (وَأَطِيعُونِ) قضى بأن يعاد اتصال النظم بإعادة فعل (اتَّقُوا).
وإنما أتي بفعل (اتَّقُوا) معطوفا ولم يؤت به مفصولا لما في الجملة الثانية من الزيادة على ما في الجملة الأولى من التذكير بإنعام الله عليهم ، فعلق بفعل التقوى في الجملة الأولى اسم الذات المقدسة للإشارة إلى استحقاقه التقوى لذاته ، ثم علق بفعل التقوى في الجملة الثانية اسم الموصول بصلته الدالة على إنعامه للإشارة إلى استحقاقه التقوى لاستحقاقه الشكر على ما أنعم به.
وقد جاء في ذكر النعمة بالإجمال الذي يهيّئ السامعين لتلقّي ما يرد بعده فقال : (الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) ثم فصّل بقوله : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وأعيد فعل (أَمَدَّكُمْ) في جملة التفصيل لزيادة الاهتمام بذلك الإمداد فهو للتوكيد اللفظي. وهذه الجملة بمنزلة بدل البعض من جملة (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) فإن فعل (أَمَدَّكُمْ) الثاني وإن كان مساويا ل (أَمَدَّكُمْ) الأول فإنما صار بدلا منه باعتبار ما تعلق به من قوله :(بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) إلخ الذي هو بعض ممّا تعلمون. وكلا الاعتبارين التوكيد والبدل يقتضي الفصل ، فلأجله لم تعطف الجملة.
وابتدأ في تعداد النعم بذكر الأنعام لأنها أجلّ نعمة على أهل ذلك البلد ، لأن منها أقواتهم ولباسهم وعليها أسفارهم وكانوا أهل نجعة فهي سبب بقائهم ، وعطف عليها البنين لأنهم نعمة عظيمة بأنها أنسهم وعونهم على أسباب الحياة وبقاء ذكرهم بعدهم وكثرة أمتهم ، وعطف الجنات والعيون لأنها بها رفاهية حالهم واتساع رزقهم وعيش أنعامهم.
وجملة : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تعليل لإنكار عدم تقواهم وللأمر بالتقوى ، أي أخاف عليكم عذابا إن لم تتقوا ، فإن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.