المقصود إبلاغ مضى وهو الذي أبلغ لشيع الأولين لتقدم ذكرهم فيتوهّم أنهم المراد بالمجرمين مع أن المراد كفار قريش. وأما هذه الآية فلم يتقدم فيها ذكر لغير كفار قريش فناسبها حكاية وقوع هذا الإبلاغ منذ زمن مضى. وهم مستمرون على عدم الإيمان.
وجملة : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) إلخ مستأنفة بيانيّة ، أي إن سألت عن استمرار تكذيبهم بالقرآن في حين أنه نزل بلسان عربي مبين فلا تعجب فكذلك السلوك سلكناه في قلوب المشركين ؛ فهو تشبيه للسلوك المأخوذ من (سَلَكْناهُ) بنفسه لغرابته. وهذا نظير ما تقدم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣] ، أي هو سلوك لا يشبهه سلوك وهو أنه دخل قلوبهم بإبانته وعرفوا دلائل صدقه من أخبار علماء بني إسرائيل ومع ذلك لم يؤمنوا به.
ومعنى : (سَلَكْناهُ) أدخلناه ، قال الأعشى :
كما سلك السّكّيّ في الباب فيتق
وعبّر عن المشركين ب (الْمُجْرِمِينَ) لأن كفرهم بعد نزول القرآن إجرام. وجملة : (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) في موضع الحال من (الْمُجْرِمِينَ).
والغاية في (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ) تهديد بعذاب سيحلّ بهم ، وحث على المبادرة بالإيمان قبل أن يحل بهم العذاب. والعذاب صادق بعذاب الآخرة لمن هلكوا قبل حلول عذاب الدنيا ، وصادق بعذاب السيف يوم بدر ، ومعلوم أنه (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام : ١٥٨].
وقوله : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) صالح للعذابين : عذاب الآخرة يأتي عقب الموت والموت يحصل بغتة ، وعذاب الدنيا بالسيف يحصل بغتة حين الضرب بالسيف.
والفاء في قوله : (فَيَأْتِيَهُمْ) عاطفة لفعل (فَيَأْتِيَهُمْ) على فعل (يَرَوُا) كما دل عليه نصب (فَيَأْتِيَهُمْ) وذلك ما يستلزمه معنى العطف من إفادة التعقيب فيثير إشكالا بأن إتيان العذاب لا يكون بعد رؤيتهم إياه بل هما حاصلان مقترنين فتعيّن تأويل معنى الآية. وقد حاول صاحب «الكشاف» والكاتبون عليه تأويلها بما لا تطمئن له النفس.
والوجه عندي في تأويلها أن تكون جملة : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) بدل اشتمال من جملة (يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وأدخلت الفاء فيها لبيان صورة الاشتمال ، أي أن رؤية العذاب مشتملة على حصوله بغتة ، أي يرونه دفعة دون سبق أشراط له.