فالاستفهام عما حصل له في هذه الحال ، أي عن المانع لرؤية الهدهد. والكلام موجه إلى خفائه ، يعني : أكان انتفاء رؤيتي الهدهد من عدم إحاطة نظري أم من اختفاء الهدهد؟ فالاستفهام حقيقي وهو كناية عن عدم ظهور الهدهد.
و (أَمْ) منقطعة لأنها لم تقع بعد همزة الاستفهام التي يطلب بها تعيين أحد الشيئين. و (أَمْ) لا يفارقها تقدير معنى الاستفهام بعدها ، فأفادت هنا إضراب الانتقال من استفهام إلى استفهام آخر. والتقدير : بل أكان من الغائبين؟ وليست (أَمْ) المنقطعة خاصة بالوقوع بعد الخبر بل كما تقع بعد الخبر تقع بعد الاستفهام.
وصاحب «المفتاح» مثّل بهذه الآية لاستعمال الاستفهام في التعجب والمثال يكفي فيه الفرض. ولما كان قول سليمان هذا صادرا بعد تقصّيه أحوال الطير ورجح ذلك عنده أنه غاب فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) لأن تغيبه من دون إذن عصيان يقتضي عقابه ، وذلك موكول لاجتهاد سليمان في المقدار الذي يراه استصلاحا له إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداما له لئلا يلقّن بالفساد غيره فيدخل الفساد في الجند وليكون عقابه نكالا لغيره. فصمم سليمان على أنه يفعل به عقوبة جزاء على عدم حضوره في الجنود. ويؤخذ من هذا جواز عقاب الجندي إذا خالف ما عيّن له من عمل أو تغيب عنه.
وأما عقوبة الحيوان فإنما تكون عند تجاوزه المعتاد في أحواله. قال القرافي في «تنقيح الفصول» في آخر فصوله : سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن قتل الهرّ الموذي هل يجوز؟ فكتب وأنا حاضر : إذا خرجت أذيته عن عادة القطط وتكرر ذلك منه قتل اه. قال القرافي : فاحترز بالقيد الأول عما هو في طبع الهر من أكل اللحم إذا ترك فإذا أكله لم يقتل لأنه طبعه ، واحترز بالقيد الثاني عن أن يكون ذلك منه على وجه القلة فإن ذلك لا يوجب قتله. قال القرافي : وقال أبو حنيفة : إذا آذت الهرة وقصد قتلها لا تعذب ولا تخنق بل تذبح بموسى حادة لقوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة» اه. وقال الشيخ ابن أبي زيد في «الرسالة» : ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها. فقول سليمان (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) شريعة منسوخة.
أما العقاب الخفيف للحيوان لتربيته وتأديبه كضرب الخيل لتعليم السير ونحو ذلك فهو مأذون فيه لمصلحة السير ، وكذلك السبق بين الخيل مع ما فيه من إتعابها لمصلحة السير عليها في الجيوش.