تصرف ملك جديد في مدينتها فعلمت بقياس شواهد التاريخ وبخبرة طبائع الملوك إذا تصرفوا في مملكة غيرهم أن يقلبوا نظامها إلى ما يساير مصالحهم واطمئنان نفوسهم من انقلاب الأمة المغلوبة عليهم في فرص الضعف أو لوائح الاشتغال بحوادث مهمة ، فأول ما يفعلونه إقصاء الذين كانوا في الحكم لأن الخطر يتوقع من جانبهم حيث زال سلطانهم بالسلطان الجديد ، ثم يبدلون القوانين والنظم التي كانت تسير عليها الدولة ، فأما إذا أخذوها عنوة فلا يخلو الأخذ من تخريب وسبي ومغانم ، وذلك أشد فسادا. وقد اندرج الحالان في قولها (إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً).
وافتتاح جملة : (إِنَّ الْمُلُوكَ) بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وتحقيقه ، فقولها (إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) استدلال بشواهد التاريخ الماضي ولهذا تكون (إِذا) ظرفا للماضي بقرينة المقام كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا) [التوبة : ٩٢].
وجملة : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) استدلال على المستقبل بحكم الماضي على طريقة الاستصحاب وهو كالنتيجة للدليل الذي في قوله : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها). والإشارة إلى المذكور من الإفساد وجعل الأعزة أذلة ، أي فكيف نلقي بأيدينا إلى من لا يألو إفسادا في حالنا.
فدبرت أن تتفادى من الحرب ومن الإلقاء باليد ، بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بإرسال هدية إليه ، وقد عزمت على ذلك ولم تستطلع رأي أهل مشورتها لأنهم فوضوا الرأي إليها ، ولأن سكوتهم على ما تخبرهم به يعدّ موافقة ورضى.
وهذا الكلام مقدمة لما ستلقيه إليهم من عزمها ، ويتضمن تعليلا لما عزمت عليه.
والباء في (بِهَدِيَّةٍ) باء المصاحبة. ومفعول (مُرْسِلَةٌ) محذوف دل عليه وصف (مُرْسِلَةٌ) وكون التشاور فيما تضمنه كتاب سليمان. فالتقدير : مرسلة إليهم كتابا ووفدا مصحوبا بهدية إذ لا بد أن يكون الوفد مصحوبا بكتاب تجيب به كتاب سليمان فإن الجواب عن الكتاب عادة قديمة ، وهو من سنن المسلمين ، وعدّ من حق المسلم على المسلم ، قال القرطبي : إذا ورد على إنسان في كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كرد السلام اه. ولم أقف على حكم فيه من مذاهب الفقهاء. والظاهر أن الجواب إن كان عن كتاب مشتمل على صيغة السلام أن يكون رد الجواب واجبا وأن