وجعل كلا الفريقين قوله (صُنْعَ اللهِ) إلخ مرادا به تهويل قدرة الله تعالى وأن النفخ في الصور وتسيير الجبال من عجيب قدرته ، فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطلق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى التركيب والإيجاد ، فإن الإتقان إجادة ، والهدم لا يحتاج إلى إتقان.
وقال الماوردي : قيل هذا مثل ضربه الله ، أي وليس بخبر. وفيما ضرب فيه المثل ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنه مثل للدنيا يظن الناظر إليها أنها ثابتة كالجبال وهي آخذة بحظها من الزوال كالسحاب ، قاله سهل بن عبد الله التستري.
الثاني : أنه مثل للإيمان تحسبه ثابتا في القلب ، وعمله صاعد إلى السماء.
الثالث : إنه مثل للنفس عند خروج الروح ، والروح تسير إلى العرش.
وكأنهم أرادوا بالتمثيل التشبيه والاستعارة.
ولا يخفى على الناقد البصير بعد هذه التأويلات الثلاثة لأنه إن كان (الْجِبالَ) مشبها بها فهذه الحالة غير ثابتة لها حتى تكون هي وجه الشبه وإن كان لفظ (الْجِبالَ) مستعارا لشيء وكان مر السحاب كذلك كان المستعار له غير مصرح به ولا ضمنيا.
وليس في كلام المفسرين شفاء لبيان اختصاص هذه الآية بأن الرائي يحسب الجبال جامدة ، ولا بيان وجه تشبيه سيرها بسير السحاب ، ولا توجيه التذليل بقوله تعالى (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فلذلك كان لهذه الآية وضع دقيق ، ومعنى بالتأمل خليق ، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٧ ـ ٨٩] بأن يكون من تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجا وجمعا بين استدعاء للنظر ، وبين الزواجر والنذر ، كما صنع في جملة (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل : ٨٦] الآية.
أو هي معطوفة على جملة (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) [النمل : ٨٦] الآية ، وجملة (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النمل : ٨٧] معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوف عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت ، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة. وهذا من العلم