العمل ، وهو إلى باب كسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظنّ ، فإن (اتَّخَذَ) معناه صيّر شيئا إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى. والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر ، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساويا للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مرادا للمتكلم.
فقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته ، أي ما يحب أن يكون إلها له ، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية ، فالمعنى : من اتخذ ربا له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة. فإطلاق (إِلهَهُ) على هذا الوجه إطلاق حقيقي. وهذا يناسب قوله قبله (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) [الفرقان : ٤٢] ، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير. واختاره ابن عرفة في «تفسيره» وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته.
وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى : من اتخذ هواه قدوة له في أعماله لا يأتي عملا إلا إذا كان وفاقا لشهوته فكأنّ هواه إلهه. وعلى هذا يكون معنى (إِلهَهُ) شبيها بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ.
وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم. ونحا إليه ابن عباس ، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب «الكشاف» وابن عطية. وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملا للآية.
واعلم أنه إن كان مجموع جملتي (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) كلاما واحدا متصلا ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله ، تعين فعل «رأيت» لأن يكون فعلا قلبيا بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله : (أَرَأَيْتَ) إنكاريا كالثاني في قوله : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) وكان مجموع الجملتين كلاما على طريقة الإجمال ثم التفصيل. والمعنى : أرأيتك تكون وكيلا على من اتخذ إلهه هواه ، وتكون الفاء في قوله (أَفَأَنْتَ) فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط ، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الإسراء : ٤٩] على قراءة إعادة همزة الاستفهام ، وتكون جملة (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)