وقال سبحانه : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ) ( المائدة / ٥٩ ). فإذا كان هو الأصل فكيف استعمل في معنى آخر وهو أخذ الثأر من الخصم والمعاقبة بالمثل ؟ فقد استظهره صاحب المقاييس بقوله : كأنّه أنكر عليه فعاقبه ، يريد أنّ المعاقبة لمّا كانت مسببة عن الانكار فاطلق اسم السبب على المسبب.
ثمّ إنّ الانتقام يستعمل في مورد التشفّي فيما أنّ اساءة المسيئ تدخل ضرراً في الجانب الاخر فيتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي تورث التشفّي لقلبه ، ولكن ذلك من لوازم المعنى في مورد الإنسان وليس جزء لمعناه ، فالانتقام هو مجازاة المسيئ على اساءته فلاموجب لتجريده عن التشفّي عند ما يطلق على الله سبحانه ، وعلى فرض كونه جزء لمعناه فبما أنّه سبحانه أعزّ من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده ، فيطلق عليه مجرداً عنه كما هو سائر الأسماء التي تلازم شيئاً لايصح توصيفه سبحانه به ، كيف وما يصدر منه من المجازاة هو الوعد الحق وقدوعد عباده بأنّه يجزيهم إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرٌ ، قال سبحانه : ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى ) ( النجم / ٣١ ).
وممّا يؤيّد ذلك بأنّه سبحانه ضم إليه أنّه العزيز فقال : ( عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) وهو يشير إلى أنّه منيع الجانب من أن تنتهك محارمه أو يصيب به ضرر.
قال الرازي : ولا يسمّى التعذيب بالانتقام إلاّ بشرائط ثلاثة :
الأوّل : أن تبلغ الكراهة (١) إلى حد السخط الشديد.
الثاني : أن تحصل تلك العقوبة بعد مدّة.
الثالث : أن يقتضي ذلك التعذيب نوعاً من التشفّي ، وهذا القيد لا يحصل إلاّ في حقّ الخلق ، وأمّا في حقّ الخالق فهو محال.
ويدل على القيد الأوّل قوله سبحانه في حقّ فرعون : ( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا
__________________
(١) وفي النسخة « الكرامة » وهو تصحيف.