واعلم أن الناس على أربعة أقسام : أصحاب السوابق ، فتكون فكرتهم أبدا فيما سبق لهم من الله سبحانه ، يعلمون أن الحكم الأزلى لا يتغير باكتساب العبد.
سمعت الدقاق يقول : سمعت بعضهم يقول : كان الواسطى ، رحمهالله ، يصيح ليلة إلى الصباح ، فلما أصبح قيل له : ما أصابك؟ فقال : سمعت البارحة رجلا يقول : أيا راهبى نجران ما فعلت هند؟ فقلت فى نفسى : ما الّذي سبق لك من الله تعالى فى الأزل؟.
وطائفة ثانية هم أصحاب العواقب يتفكرون فيما يختم به أمرهم ، فإن الأمور بخواتيمها ، والعاقبة مستورة ، ولهذا قيل : لا يغرنكم صفاء الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات ، وقيل : ظلال الأسنة تلوح من خلال المنة.
فكم من ربيع تتورد أشجاره وتظهر ثماره وأزهاره ووطن عليه أهله قلوبهم قلم يلبثوا أن أصابته جائحة سماوية فطاح واضمحل ، قال الله سبحانه : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) (١) وكم من مريد لاحت عليه أنوار الإرادة وظهرت عليه آثار السعادة وانتشر صيته فى الآفاق وعقدت عليه الخناصر بالأطباق وظنوا أنه من جملة أوليائه وأهل صفائه ، فأبدل بالوحشة صفاؤه وبالغيبة ضياؤه ، وأنشدوا :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت |
|
ولم تخف سوء ما يأتى به القدر |
وسالمتك الليالى فاغتررت بها |
|
وعند صفو الليالى يحدث الكدر |
__________________
(١) يونس : ٢٤.