وألذها ، قال الله تعالى : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) (١) ، ثم إنه جعل قوت الأشباح الطعام والشراب وجعل قوت الأرواح المعانى التى لها قدرها ورتبتها ، وبها يحصل تفاوت درجاتها ، فمن أقوات القلوب والأرواح العقل الّذي به نظام جميع المحاسن ، فمن رزقه الله العقل أكرمه وأزانه ، ومن حرمه ذلك فقد أذله وأهانه ، قيل : إن جبريل عليهالسلام جاء إلى آدم عليهالسلام وقال : إنى أتيتك بثلاثة أشياء ، فاختر منها واحدا ، فقال : وما هى : فقال : العقل والدين والحياء ، فقال آدم : اخترت العقل ، فخرج جبريل وقال : إنه اختار العقل ، فانصرفا أنتما ، فقال الدين والحياء : إنما أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان.
ولهذا قيل : ما خلق الله تعالى شيئا أحسن من العقل ، وسئل بعضهم عن معنى العقل فقال : لم يعط أحد كماله فيوصف ، وأن الله تعالى إذ شغل العبد بطاعته أقام لأجله من يقوم بشغله ، فإذا اشتغل العبد بطاعة ربه جعل الحق سبحانه من يقوم بخدمة عبده ، وإذا رجع إلى متابعة شهوته وتحصيل أمنيته وكله إلى حوله وقوته ورفع عنه ظل عنايته.
سمعت منصور المغربى يقول : كان الكتانى بمكة ، وكان له خادم يخدمه ، وكان فى المسجد شاب حسن الجلسة ، فكان الكتانى إذا فتح عليه بشيء قال لخادمه : ابدأ بذلك الشاب ، فقال الخادم له يوما : كنت تأمرنى أن أبدأ بذلك الشاب ولم تقل لى ذلك منذ أيام ، فقال : إنى رأيته فى الحذائين يطلب شعسا ، ومن أمكنه أن يحتال لنفسه شعسا قد سقط منا فرضه.
أشار بهذا أنه إنما كان ذلك الشيخ منصوبا لمراعاة حقه وتقديمه على أشكاله لما لم يكن الشاب محترفا لنفسه ، فحيث اتصف باحتياله فى بعض أحواله رد إلى أفعاله واختياره.
__________________
(١) يونس : ٩٣.