فيفرق بينهما في الاستعمال يقال : ما أعماه من عمى القلب ، ولا يقال ذلك في العين وإنّما يقال ما أشدّ عماه ، وهو بالمعنى الأوّل معقول صرف فاستحقّ التأخير لذلك ، ودعوى الحقيقة فيهما وإن كانت ممنوعة إلّا أنّ الثلاثة تستعمل لفقد كلّ من المشاعر الجسمانيّة والايمانيّة وان كانت على الوجهين من قوى النفس ، إلّا أنّها على الأوّل للحسية الحيوانية وعلى الثاني للناطقة القدسية.
ثمّ أن الثلاثة قرأت بالنصب على الحال من مفعول (تَرَكَهُمْ) ... (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها ، فان الرجوع إلى الشّيء هو الانصراف إليه بعد الذهاب عنه ، وعنه هو الانصراف عنه بعد الذهاب إليه ، وذلك في الدّنيا لاستحكام الطبع على قلوبهم ، فكأنّهم مسخوا بهائم كما قال : (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) (١) أي لا يستطيعون مضيّا إلى الدّرجات الرفيعة الإيمانية ولا رجوعا إلى فطرتهم الأصلية كي يجدّدوا العمل في مهل الأجل ، وفي الآخرة بامتناع العود الى الدنيا ، وإن التمسه القائل منهم بقوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (٢) نعم قد يقال لهم : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) (٣) سخريّة بهم حيث يقولون (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (٤).
وربما يحتمل إرادة كونهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يرجعون ، ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون.
قيل : وهذا يناسب عود الضمير للمستوقدين والعطف بالفاء للاشعار على
__________________
(١) يس : ٦٨.
(٢) مؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.
(٣) الحديد : ١٣.
(٤) الحديد : ١٣.