وأن بياديق الجوانب فرزنت |
|
ولم يعد رخ الدست بيت بنائه (١) |
وكان ـ رحمه الله تعالى! ـ من جلة الأدباء ، وفحول الشعراء ، وبرعة الكتاب (٢) كتب عن ابن غانية الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي المسوفي الميرقي الثائر على منصور بني عبد المؤمن (٣) ، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم ، وكان منقطعا إليه ، وممن صحبه في حركاته ، وكان آية في بعد الهمة ، والذهاب بنفسه ، والغناء في مواقف الحرب ، والجنسية علة الضم ، إذ ابن غانية كان غاية في ذلك أيضا ، ووجّهه الميرقي المذكور عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق ، وقد طال العراك ، وكاد الناس ينفصلون عن الحرب [إلى أن يباكروها من الغد ، فلما بلغ الصدر اشتدّ على الناس](٤) وذمّر (٥) أرباب الحفيظة ، وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة ، فانهزم عدوّهم شرّ هزيمة ، ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة ، فقال له الأمير : وما حملك على ما صنعت؟ فقال : الذي عملت هو شأني ، وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحهم فانظر غيري.
وتشاجر له ولد صغير مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا فنال منه ولد الأمير ، وقال: وما قدر أبيك؟ فلما بلغ أباه خرج مغضبا لحينه ، ولقي ولد الأمير المخاطب لولده فقال : حفظك الله تعالى! لست أشك في أني خديم أبيك ، ولكني أحب أن أعرفك بنفسي ومقداري ومقدار أبيك ، اعلم أن أباك وجّهني رسولا إلى دار الخلافة ببغداد بكتاب عن نفسه ، فلما بلغت بغداد أنزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر ، وأجري علي سبعة دراهم في اليوم ، وطولع بكتابي ، وقيل : من الميرقي الذي وجّهه؟ فقال بعض الحاضرين : هو رجل مغربي ثائر على أستاذه ، فأقمت شهرا ، ثم استدعيت ، فلما دخلت دار الخلافة وتكلمت مع من بها من الفضلاء وأرباب المعارف والآداب اعتذروا إلي ، وقالوا للخليفة : هذا رجل جهل مقداره ، فأعدت إلى محل اكتري لي بسبعين درهما ، وأجري على مثلها في اليوم ، ثم استدعيت فودعت الخليفة ، واقتضيت ما تيسر من حوائجه وصدر لي شيء له حظ من صلته ، وانصرفت إلى أبيك ، فالمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار ، والثانية كانت على قدري ، وترجمته رحمه الله تعالى واسعة (٦).
__________________
(١) البيدق ، والفرز ، والرخ والدست من اصطلاحات الشطرنج. وفي ب : «وأن بياذيق».
(٢) برعة : جمع بارع. وبرع : تم في الفضيلة أو الجمال أو العلم ونحوها.
(٣) في ج : منصور بن عبد المؤمن.
(٤) ما بين حاصرتين من ج.
(٥) ذمّر : حثّ ، حضّ.
(٦) في ب : «متسعة».