سيوفنا يوم الحرّة ، ثم طالبتنا بتلك التّرة (١) فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضّنك (٢) حتى أمتنا جوعا ، فقتلوه وصلبوه كما تقدّم ، وكان أمية وقطن ابناه عندما خلع قد هربا ، وحشدا لطلب الثأر ، واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر ، وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري كبير الجند ، وكان في أصحاب بلج ، فلمّا صنع بابن عمّه عبدالملك ما صنع فارقه ، فانحاز فيمن يطلب ثأره ، وانضمّ إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة ، وكان فارس الأندلس في وقته ، فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون ، وبلج قد استعدّ لهم في مقدار اثني عشر ألفا سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين ، فاقتتلوا ، وصبر أهل الشام صبرا لم يصبر مثله أحد قط ، وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي : أروني بلجا ، فو الله لأقتلنّه أو لأموتنّ دونه ، فأشاروا إليه نحوه ، فحمل بأهل الثغر حملة انفرج لها الشاميون ، والراية في يده ، فضربه عبد الرحمن ضربتين مات منهما بعد ذلك بأيام قلائل. ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمة قبيحة ، واتبعهم الشاميون يقتلون ويأسرون ، فكان عسكرا منصورا مقتولا أميره ، وكان هلاك بلج في شوال سنة أربع وعشرين ومائة ، وكانت مدّته أحد عشر شهرا ، وسريره قرطبة ، والعرب الشاميون الداخلون معه الأندلس (٣) يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين ، والذين كانوا في الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين.
ولمّا هلك بلج قدّم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي ، وقد كان عندهم عهد الخليفة هشام بذلك ، فسار فيهم بأحسن سيرة ، ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر همّوا بعد الوقعة لطلب الثأر ، فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة ، وهم لا يشكّون في الظّفر ، إلى أن حضر عيد تشاغلوا به ، فأبصر ثعلبة منهم غرّة (٤) وانتشارا وأشرا (٥) بكثرة العدد والاستيلاء ، فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم ذاهلون ، فهزمهم هزيمة قبيحة ، وأفشى فيهم القتل ، وأسر منهم ألف رجل ، وسبى ذرّيّتهم وعيالهم ، وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون ، حتى نزل بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة.
__________________
(١) الترة : الثأر.
(٢) الضنك : الضيق.
(٣) في ب : الداخلون معه إلى الأندلس.
(٤) غرّة : غفلة.
(٥) الأشر : البطر وكفران النعمة.