لسانه ، وحلاوة شمائله ، شبّه بطائر أسود غرد عندهم ، وكان شاعرا مطبوعا ، وكان ابنه أحمد قد غلب عليه الشعر أيضا ، وكان من خبره في الوصول إلى الأندلس أنه كان تلميذا لإسحاق الموصلي ببغداد ، فتلقّف من أغانيه استراقا ، وهدي من فهم الصناعة وصدق العقل مع طيب الصوت وصورة الطبع إلى ما فاق به إسحاق وإسحاق لا يشعر بما فتح عليه ، إلى أن جرى للرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغنّ غريب مجيد للصنعة ، لم يشتهر مكانه إليه ، فذكر له تلميذه هذا ، وقال : إنه مولى لكم ، وسمعت له نزعات حسنة ، ونغمات رائقة ، ملتاطة بالنفس (١) ، إذا أنا وقفته على ما استغرب منها وهو من اختراعي واستنباط فكري ، وأحدس (٢) أن يكون له شأن ، فقال الرشيد : هذا طلبتي ، فأحضرنيه لعل حاجتي عنده ، فأحضره ، فلمّا كلّمه الرشيد أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب ، وسأله عن معرفته بالغناء ، فقال : نعم أحسن منه ما يحسنه الناس ، وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه ، ممّا لا يحسن إلّا عندك ولا يدّخر إلّا لك ، فإن أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك ، فأمر بإحضار عود أستاذه إسحاق ، فلما أدني إليه وقف عن تناوله ، وقال : لي عود نحتّه بيدي ، وأرهفته بإحكامي ، ولا أرتضي غيره ، وهو بالباب ، فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه ، فأمر بإدخاله إليه ، فلمّا تأمّله الرشيد وكان شبيها بالعود الذي دفعه قال له : ما منعك أن تستعمل عود أستاذك؟ فقال : إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده ، وإن كان يرغب في غنائي فلا بدّ لي من عودي ، فقال له : ما أراهما إلّا واحدا ، فقال : صدقت يا مولاي ، ولا يؤدّي النظر غير ذلك ، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه ، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثة ورخاوة ، وبمّها ومثلثها اتّخذتهما من مصران شبل أسد ، فلها في الترنّم والصفاء والجهارة والحدّة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان ، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها ، فاستبرع الرشيد وصفه وأمره بالغناء ، فجس ، ثم اندفع فغنّاه : [بحر البسيط]
يا أيها الملك الميمون طائره |
|
هارون راح إليك الناس وابتكروا |
فأتمّ النوبة ، وطار الرشيد طربا ، وقال لإسحاق : والله لو لا أني أعلم من صدقك لي على كتمانه إيّاك لما عنده وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه ، فخذه إليك واعتن بشأنه ، حتى أفرغ له ، فإن لي فيه نظرا ، فسقط في يد إسحاق (٣) ،
__________________
(١) ملتاطة بالنفس : لاصقة بها.
(٢) أحدس : أظن. وفي ب : «أحدس» ، بإسقاط الواو.
(٣) سقط في يده : كناية عن الندم والحيرة.