وهاج به من داء الحسد ما غلب على صبره (١) ، فخلا بزرياب وقال : يا علي ، إنّ الحسد أقدم الأدواء وأدوؤها ، والدنيا فتّانة ، والشركة في الصناعة عداوة ، ولا حيلة في حسمها (٢) ، وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلوّ طبقتك ، وقصدت منفعتك فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك ، وعن قليل تسقط منزلتي ، وترتقي أنت فوقي ، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي ، ولولا رعيي لذمّة تربيتك لما قدمت شيئا على أن أذهب نفسك ، يكون في ذلك ما كان ، فتخيّر في ثنتين لا بدّ لك منهما : إمّا أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبرا بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة ، وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره ، وإمّا أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفا إليّ ، فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك ، ولا أدع اغتيالك باذلا في ذلك بدني ومالي ، فاقض قضاءك. فخرج زرياب لوقته ، وعلم قدرته على ما قال ، واختار الفرار قدامه ، فأعانه إسحاق على ذلك سريعا ، وراش جناحه (٣) ، فرحل عنه ، ومضى يبغي مغرب الشمس ، واستراح قلب إسحاق منه.
وتذكّره الرشيد بعد فراغه من شغل كان منغمسا فيه ، فأمر إسحاق بحضوره ، فقال : ومن لي به يا أمير المؤمنين؟ ذاك غلام مجنون يزعم أن الجنّ تكلّمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه ، فما يرى في الدنيا من يعدله ، وما هو إلّا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك استعادته ، فقدّر التقصير به ، والتهوين بصناعته ، فرحل مغاضبا ذاهبا على وجهه مستخفيا عنّي ، وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين ، فإنه كان به لمم (٤) يغشاه ويفرط خبطه ، فيفزع من رآه ، فسكن الرشيد إلى قول إسحاق ، وقال : على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير.
ومضى زرياب إلى المغرب ، فنسي بالمشرق خبره ، إذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ، ونزعت إليه نفسه ، وسمت به همّته ، فأمّ (٥) أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه ، وخاطبه ، وذكر له نزاعه إليه ، واختياره إياه ، ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها ، ويسأله الإذن في الوصول إليه ، فسرّ الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتّطلّع إليه وإجمال الموعد ما تمنّاه ، فسار زرياب نحوه بعياله وولده ، وركب بحر الزّقاق إلى الجزيرة الخضراء ، فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم ، فهمّ بالرجوع إلى العدوة ، فكان معه
__________________
(١) في ب : «ما غلب صبره».
(٢) في ب : «لا حيلة في حسمها».
(٣) راش جناحه : قوّاه وشد ساعده.
(٤) اللمم : طرف ضعيف من الجنون.
(٥) أمّ : قصد.