منصور اليهودي المغني رسول الحكم إليه ، فثناه عن ذلك ورغّبه في قصد القائم مقام الحكم ، وهو عبد الرحمن ولده ، وكتب إليه بخبر زرياب ، فجاءه كتاب عبد الرحمن يذكر تطلّعه إليه ، والسرور بقدومه عليه ، وكتب إلى عمّاله على البلاد أن يحسنوا إليه ، ويوصلوه إلى قرطبة ، وأمر خصيّا من أكابر خصيانه أن يتلقّاه ببغال ذكور وإناث وآلات حسنة ، فدخل هو وأهله البلد ليلا صيانة للحرم ، وأنزله في دار من أحسن الدور ، وحمل إليها جميع ما يحتاج إليه ، وخلع عليه ، وبعد ثلاثة أيام استدعاه ، وكتب له في كل شهر بمائتي دينار راتبا ، وأن يجرى على بنيه الذين قدموا معه ـ وكانوا أربعة : عبد الرحمن ، وجعفر ، وعبيد الله ، ويحيى. عشرون دينارا لكلّ واحد منهم كلّ شهر ، وأن يجرى على زرياب من المعروف العام ثلاثة آلاف دينار ، منها لكلّ عيد ألف دينار ، ولكلّ مهرجان ونوروز خمسمائة دينار ، وأن يقطع له من الطعام العام ثلاثمائة مدي ثلثاها شعير وثلثها قمح ، وأقطعه من الدّور والمستغلّات بقرطبة وبساتينها ومن الضياع ما يقوّم بأربعين ألف دينار. فلمّا قضى له سؤله وأنجز موعوده وعلم أن قد أرضاه وملك نفسه استدعاه ، فبدأ بمجالسته على النبيذ وسماع غنائه ، فما هو إلّا أن سمعه فاستهوله واطّرح كل غناء سواه ، وأحبّه حبّا شديدا ، وقدّمه على جميع المغنين ، وكان لمّا خلا به أكرمه غاية الإكرام ، وأدنى منزلته ، وبسط أمله ، وذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء ، فحرّك منه بحرا زخر عليه مدّه (١) ، فأعجب الأمير به ، وراقه ما أورده ، وحضر وقت الطعام فشرّفه بالأكل معه هو وأكابر ولده ، ثم أمر كاتبه بأن يعقد له صكّا بما ذكرناه آنفا ، ولمّا ملك قلبه واستولى عليه حبّه ، فتح له بابا خاصّا يستدعيه منه متى أراده.
وذكر أنّ زريابا ادّعى أنّ الجن كانت تعلّمه كلّ ليلة ما بين نوبة إلى صوت واحد ، كان يهبّ من نومه سريعا فيدعو بجاريتيه غزلان وهنيدة ، فتأخذان عودهما ، ويأخذ هو عوده ، فيطارحهما ليلته ، ثم يكتب (٢) الشعر ، ثم يعود عجلا إلى مضجعه ، وكذلك يحكى عن إبراهيم الموصلي في لحنه البديع المعروف بالماخوري أنّ الجن طارحته إياه ، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك.
وزاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وترا خامسا اختراعا منه ، إذ لم يزل العود ذا أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع ، فزاد عليها وترا خامسا أحمر متوسّطا ، فاكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة ، وذلك أن الزير (٣). صبغ أصفر اللون ،
__________________
(١) زخر البحر : طما. والمد : ارتفاع ماء البحر.
(٢) في ب : «ويكتب الشعر».
(٣) الزير ، والبم ، والمثنى ، والثلث : أسماء لأوتار العود.