وجعل في العود بمنزلة الصفراء من الجسد ، وصبغ الوتر الثاني بعده أحمر ، وهو من العود مكان الدم من الجسد ، وهو في الغلظ ضعف الزير ، ولذلك سمي مثنى ، وصبغ الوتر الرابع أسود ، وجعل من العود مكان السوداء من الجسد ، وسمّي البمّ ، وهو أعلى أوتار العود ، وهو ضعف المثلث الذي عطل من الصبغ وترك أبيض اللون ، وهو من العود بمنزلة البلغم من الجسد ، وجعل ضعف المثنى في الغلظ ، ولذلك سمّي المثلث ، فهذه الأربعة من الأوتار مقابلة للطبائع الأربع تقضي طبائعها بالاعتدال ، فالبم حارّ يابس يقابل المثنى وهو حار رطب وعليه تسويته ، والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب ، قوبل كل طبع بضدّه حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه ، إلّا أنه عطل من النفس ، والنفس مقرونة بالدم ، فأضاف زرياب من أجل ذلك إلى الوتر الأوسط الدموي هذا الوتر الخامس الأحمر الذي اخترعه بالأندلس ، ووضعه تحت المثلث وفوق المثنى ، فكمل في عوده قوى الطبائع الأربع ، وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد.
وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النّسر ، معتاضا به من مرهف الخشب (١) ، فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفّته على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه.
وكان زرياب عالما بالنجوم وقسمة الأقاليم السبعة ، واختلاف طبائعها وأهويتها وتشعّب بحارها ، وتصنيف بلادها ، وسكّانها ، مع ما سنح له من فكّ كتاب الموسيقى ، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها ، وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلّفها.
وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب ، ولطف المعاشرة ، وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته ، حتى اتّخذه ملوك أهل الأندلس وخواصّهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه ، واستحسنه من أطعمته ، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبا إليه معلوما به.
فمن ذلك أنه دخل إلى الأندلس وجميع من فيها من رجل أو امرأة يرسل جمّته (٢) مفروقا وسط الجبين عامّا للصدغين والحاجبين ، فلمّا عاين ذوو التحصيل تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم ، وتقصيرها دون جباههم ، وتسويتها مع حواجبهم ، وتدويرها إلى آذانهم ، وإسدالها
__________________
(١) في ب : «مرهب الخشب» ، وهو تحريف.
(٢) الجمّة : ما تدلى من شعر الرأس إلى المنكبين ، أو مجتمع شعر مقدم الرأس ، جمعه : جم وجمام.