واستمرّ بالأندلس أنّ كلّ من افتتح الغناء فيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان ، ويأتي أثره (١) بالبسيط ، ويختم بالمحركات والأهزاج تبعا لمراسم زرياب.
وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلّمه أمره بالقعود على الوساد المدوّر المعروف بالمسورة ، وأن يشدّ صوته جدّا إذا كان قويّ الصوت ، فإن كان ليّنه أمره أن يشدّ على بطنه عمامة ، فإنّ ذلك ممّا يقوّي الصوت ، ولا يجد متّسعا في الجوف عند الخروج على الفم ، فإن كان ألصّ الأضراس (٢) لا يقدر على أن يفتح فاه ، أو كانت عادته زمّ أسنانه عند النطق ، راضه (٣) بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكّاه ، وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته : يا حجّام ، أو يصيح : آه ، ويمدّ بها صوته ، فإن سمع صوته بهما صافيا نديّا قويّا مؤدّيا لا يعتريه غنّة ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف أن سوف ينجب (٤) ، وأشار بتعليمه ، وإن وجده خلاف ذلك أبعده.
وكان له من ذكور الولد ثمانية : عبد الرحمن ، وعبيد الله ، ويحيى ، وجعفر ، ومحمد ، وقاسم ، وأحمد ، وحسن. ومن الإناث ثنتان : علية ، وحمدونة. وكلّهم غنّى ، ومارس الصناعة ، واختلفت بهم الطبقة ، فكان أعلاهم عبيد الله ، ويتلوه عبد الرحمن ، لكنه ابتلي من فرط التّيه وشدّة الزهو (٥) وكثرة العجب بغنائه والذهاب بنفسه بما لم يكن له شبه فيه ، وقلّما يسلم مجلس حضوره من كدر يحدثه ، ولا يزال يجترئ على الملوك ، ويستخفّ بالعظماء ، ولقد حمله سخفه على أن حضر يوما مجلس بعض الأكابر الأعاظم في أنس قد طاب به سروره ، وكان صاحب قنص تغلب عليه لذّته ، فاستدعى بازيا كان كلفا به كثير التذكّر له ، فجعل يمسح أعطافه ويعدّل قوادمه ، ويرتاح لنشاطه ، فسأله عبد الرحمن أن يهبه له ، فاستحيا من ردّه ، وأعطاه إياه مع ضنّه به ، فدفعه عبد الرحمن إلى غلامه ليعجل به إلى منزله ، وأسرّ إليه فيه بسرّ لم يطلع عليه ، فمضى لشأنه ، ولم يلبث أن جاءه بطيفورية مغطاة مكرمة بطابع مختوم عليها من فضّة ، فإذا به لون مصوص (٦) قد اتّخذ من البازي بعد ذبحه على ما حده
__________________
(١) في ب : «ويأتي إثره ...».
(٢) ألصّ الأضراس : متقاربها.
(٣) راضه : روضه ، مرّنه.
(٤) ينجب : يصير نجيبا.
(٥) الزهو : الخيلاء والكبر.
(٦) كذا ، ولعل أصل العبارة «فإذا به لون مخصوص».