حتى كأنه يخبر مساحات الأرض ، ذات الطول والعرض ، ويجوب أهوية الأقاليم السبع ، خارجا بما أدخله فيه اللجاج عن السمع (١) ، فكأنه خليفة الإسكندر ، لكن ما يجيش من هموم الغربة بفكري قائمة مقام الجيش والعسكر ، جزت إلى بر العدوة من الغرب الأقصى ، ثم تشوقت نفسي فطمحت (٢) إلى مشاهدة الغرب الأوسط فلاقيت فيما بينهما من المسافة من المشاق ما لا يحصى (٣) ، ثم تشوقت إلى إفريقية درب بلاد الشرق ، فاستشعرت من هنالك ما بينها وبين بلادي من الفرق ، واختطفت من عيني تلك الطلاوة ، وانتزعت من قلبي تلك الحلاوة : [بحر الطويل]
فلله عين لم تر العين مثلها |
|
ولا تلتقي إلا بجنّات رضوان |
ثم نازعتني النفس التواقة (٤) إلى الديار المصرية ، فكابدت في البحر ما لا يفي بوصفه إلا المشاهدة (٥) إلى أن أبصرت منار الإسكندرية ، فيا لك من استئناف عمر جديد ، بعد اليأس من الحياة بما لقينا من الهول والتنكيد ، ثم صعدت إلى القاهرة قاعدة الديار المصرية ، لمعاينة الهرمين وما فيهما من المعالم الأزلية ، وعاينت القاهرة المعزية ، وما فيها من الهمم [العلية](٦) الملوكية ، غير أني أنكرت مبانيها الواهية (٧) ، على ما حوت من أولي الهمم العالية ، وكونها حاضرة العسكر الجرار ، وكرسيّ الملك العظيم المقدار ، وقلت : أصداف فيها جواهر ، وشوك محدق بأزاهر ، ثم ركبت النيل وعاينت تماسيحه ، وجزت بحر جدة وذقت تباريحه (٨) ، وقضيت الحج والزيارة ، وملت إلى حاضرة الشام دمشق والنفس بالسوء أمّارة ، فهنالك بعت الزيارة بالأوزار (٩) ، وآلت تلك التجارة إلى ما حكمت به الأقدار ، إذ هي كما قال أحد من عاينها : [بحر البسيط]
أما دمشق فجنّات معجّلة |
|
للطالبين بها الولدان والحور |
فلله ما تضمن داخلها من الحور والولدان ، وما زين به خارجها من الأنهار والجنان ، وبالجملة فإنها حمى تتقاصر عن إدراكها أعناق الفصاحة ، وتقصر عن مناولتها في ميدان الأوصاف كل راحة ، ولم أزل أسمع عن حلب ، أنها دار الكرم والأدب ، فأردت أن يحظى
__________________
(١) في ب ، ه : «عن الشرع».
(٢) في ب ، ه : فطمحت نفسي إلى مشاهدة الغرب الأوسط.
(٣) في ب : يحصر.
(٤) النفس التواقة : المشتاقة.
(٥) في ب ، ه : «إلا المشافهة».
(٦) ساقطة في ب.
(٧) الواهية : المتداعية.
(٨) التباريح : الآلام والمشاقّ.
(٩) الأوزار : جمع وزر ، وهو : الإثم والخطيئة.