بصري بما حظي به سمعي ، ورحلت إليها وأقمت جابرا بالذاكرة والمطايبة صدعي ، ثم رحلت إلى الموصل فألفيت مدينة عليها رونق الأندلس ، وفيها لطافة وفي مبانيها طلاوة ترتاح لها الأنفس ، ثم دخلت إلى مقر الخلافة بغداد ، فعاينت من العظم والضخامة ما لا يفي به الكتب ولو أن البحر مداد (١) ، ثم تغلغلت إلى بلاد العجم (٢) بلدا بلدا ، غير مقتنع بغاية ولا قاصد أمدا ، إلى أن حللت ببخارى قبة الإسلام ، ومجمع الأنام ، فألقيت بها عصا التسيار ، وعكفت على طلب العلم واصلا في اجتهاده سواد الليل وبياض النهار ، انتهى.
وكتب إليهم أيضا من هذه الرسالة : كتبت وقد حصلتني السعادة ، وحظ الأمل والإرادة ، بحضرة بخارى قبة الإسلام.
وأجابه أهله من الغرب بكلام من جملته : وإن كنت قد تحصنت بقبة الإسلام ، فقد تعجلت لنا ولك الفقد قبل وقت الحمام (٣).
وأتبعوا ذلك بما دعاه لأن خاطبهم بشعر منه : [بحر الطويل]
عتبتم على حثّي المطيّ وقلتم |
|
تعجّلت فقدا قبل وقت حمام |
إذا لم يكن حالي مهمّا لديكم |
|
سواء عليكم رحلتي ومقامي |
وقتل المذكور ببخارى ، حين دخلها التتر ، وهو عم علي بن سعيد الشهير.
وكان لعبد الرحمن المذكور أخ يسمى يحيى قد عانى الجندية ، فلما بلغه أن أبا القاسم عبد الرحمن قتل ببخارى قال : لا إله إلا الله! كان أبدا يسفّه رأيي في الجندية ، ويقول : لو اتبعت طريق النجاة كما صنعت أنا لكان خيرا لك ، فها هو ربّ قلم قد قتل شر قتلة بحيث لا ينتصر وسلب سلاحه ، وأنا ما زلت أغازي في عبّاد الصليب وأخلص ، فما يقدر أحد أن (٤) يحسن لنفسه عاقبة ، انتهى.
قال أبو الحسن علي بن سعيد : ثم إن يحيى المذكور بعد خوضه في الحروب صرعه في طريقه غلام كان يخدمه ، فذبحه على نزر (٥) من المال ، أفلت به ، فانظر إلى تقلب الأحوال كيف يجري في أنواع الأمور لا على تقدير ولا احتياط ، انتهى.
ومن شعر أبي القاسم عبد الرحمن المذكور ما خاطب به نقيب الأشراف ببخارى ، وقد
__________________
(١) المداد : الحبر.
(٢) في ب ، ه : «في بلاد العجم».
(٣) الحمام : الموت.
(٤) «أن» ساقطة في ب.
(٥) النزر : القليل التافه.