يكذبوه لعلمه بأن مثل هذه الرسالة لا يتلقاها المرسل إليهم إلا بالتكذيب ، وجعل نفسه خائفا من التكذيب لأنه لما خلعت عليه الرسالة عن الله وقر في صدره الحرص على نجاح رسالته فكان تكذيبه فيها مخوفا منه.
و (يَضِيقُ صَدْرِي) قرأه الجمهور بالرفع فهو عطف على (أَخافُ) أو تكون الواو للحال فتكون حالا مقدرة ، أي والحال يضيق ساعتئذ صدري من عدم اهتدائهم.
والضيق : ضد السعة ، وهو هنا مستعار للغضب والكمد لأن من يعتريه ذلك يحصل له انفعال وينشأ عنه انضغاط الأعصاب في الصدر والقلب من تأثير الإدراك الخاص على جمع الأعصاب الكائن بالدماغ الذي هو المدرك فيحس بشبه امتلاء في الصدر. وقد تقدم عند قوله تعالى : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] وقوله : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) في سورة هود [١٢]. والمعنى : أنه يأسف ويكمد لتكذيبهم إياه ويجيش في نفسه روم إقناعهم بصدقه ، وتلك الخواطر إذا خطرت في العقل نشأ منها إعداد البراهين ، وفي ذلك الإعداد تكلّف وتعب للفكر فإذا أبانها أحس بارتياح وبشبه السعة في الصدر فسمى ذلك شرحا للصدر ، ولذلك سأله موسى في الآية الأخرى قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه : ٢٥].
والانطلاق حقيقته مطاوع أطلقه إذا أرسله ولم يحبسه فهو حقيقة في الذهاب. واستعير هنا لفصاحة اللسان وبيانه في الكلام ، أي ينحبس لساني فلا يبين عند إرادة المحاجة والاستدلال وعطفه على (يَضِيقُ صَدْرِي) ينبئ بأنه أراد بضيق الصدر تكاثر خواطر الاستدلال ، في نفسه على الذين كذبوه ليقنعهم بصدقه حتى يحسّ كأن صدره قد امتلأ ، والشأن أن ذلك ينقص شيئا بعد شيء بمقدار ما يفصح عنه صاحبه من إبلاغه إلى السامعين ، فإذا كانت في لسانه حبسة وعيّ بقيت الخواطر متلجلجة في صدره. والمعنى : ويضيق صدري حين يكذبونني ولا ينطلق لساني.
وقرأ الجمهور : (يَضِيقُ) ... (وَلا يَنْطَلِقُ) مرفوعين عطفا على (فَأَخافُ) ولذلك حقّقه بحرف التأكيد لأنه أيقن بحصول ذلك لأنه جبلي عند تلقي التكذيب ، ولأن أمانة الرسالة والحرص على تنفيذ مراد الله يحدث ذلك في نفسه لا محالة ، وإذ قد كان انحباس لسانه يقينا عنده لأنه كان كذلك من أجل ذلك التيقن كان فعلا (يَضِيقُ ... وَلا يَنْطَلِقُ) معطوفين على ما هو محقق عنده وهو حصول الخوف من التكذيب ، ولم يكونا معطوفين على (يُكَذِّبُونِ) المخوف منه المتوقع على أن كونه محقق الحصول يجعله أحرى من المتوقع.