فأما إذا أهمل إرضاء الله تعالى بها واتّخذت للرياء والغرور بالعظمة وكانوا معرضين عن التوحيد وعن عبادة الله انقلبت عظمة دنيوية محضة لا ينظر فيها إلى جانب النفع ولا تحث الناس على الاقتداء في تأسيس أمثالها وقصاراها التمدح بما وجدوه منها. فصار وجودها شبيها بالعبث لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر عبادته وطاعته. وكانوا أيضا في الإعراض عن الآخرة والاقتصار على التزود للحياة الدنيا بمنزلة من يحسبون أنفسهم خالدين في الدنيا.
والأعمال إذا خلت عن مراعاة المقاصد التي ترضي الله تعالى اختلفت مشارب عامليها طرائق قددا على اختلاف الهمم واجتلاب المصالح الخاصة ، فلذلك أنكرها عليهم رسولهم بالاستفهام الإنكاري على سنة المواعظ فإنها تبنى على مراعاة ما في الأعمال من الضر الراجح على النفع ، فلا يلفت الواعظ إلى ما عسى أن يكون في الأعمال من مرجوح إذا كان ذلك النفع مرغوبا للناس ، فإن باعث الرغبة المنبثّ في الناس مغن عن ترغيبهم فيه ، وتصدي الواعظ لذلك فضول وخروج عن المقصد بتحذيرهم أو تحريضهم فيما عدا ذلك ، إذا كان الباعث على الخير مفقودا أو ضئيلا. وقد كان هذا المقام مقام موعظة كما دلّ عليه قوله تعالى عنهم (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) [الشعراء : ١٣٦]. ومقام الموعظة أوسع من مقام تغيير المنكر ، فموعظة هود عليهالسلام متوجهة إلى ما في نفوسهم من الأدواء الروحية ، وليس في موعظته أمر بتغيير ما بنوه من العلامات ولا ما اتخذوه من المصانع.
ولما صار أثر البناء شاغلا عن المقصد النافع للحياة في الآخرة نزّل فعلهم المفضي إلى العبث منزلة الفعل الذي أريد منه العبث عند الشروع فيه فأنكر عليهم البناء بإدخال همزة الإنكار على فعل (تَبْنُونَ) ، وقيّد بجملة : (تَعْبَثُونَ) التي هي في موضع الحال من فاعل (تَبْنُونَ) ، مع أنهم لما بنوا ذلك ما أرادوا بفعلهم عبثا ، فمناط الإنكار من الاستفهام الإنكاري هو البناء المقيّد بالعبث ، لأن الحكم إذا دخل على مقيّد بقيد انصرف إلى ذلك القيد.
وكذلك المعطوف على الفعل المستفهم عنه وهو جملة : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) هو داخل في حيّز الإنكار ومقيّد بجملة الحال المقيّد بها المعطوف عليه بناء على أن الحال المتوسطة بين الجملتين ترجع إلى كلتيهما على رأي كثير من علماء أصول الفقه لا سيما إذا قامت القرينة على ذلك.