إلى أن قال :
لعل أمير المؤمنين يسوءه |
|
تنادمنا بالجوسق المتهدم (١) |
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه وقال له : أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحدّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت وإنما كان فضلة من القول ، وقد قال الله تعالى : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فقال له عمر : أمّا عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت.
وقد كني باتباع الغاوين إياهم عن كونهم غاوين ، وأفيد بتفظيع تمثيلهم بالإبل الهائمة تشويه حالتهم ، وأن ذلك من أجل الشعر كما يؤذن به إناطة الخبر بالمشتق ، فاقتضى ذلك أن الشعر منظور إليه في الدين بعين الغضّ منه ، واستثناء (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إلخ ... من عموم الشعراء ، أي من حكم ذمّهم. وبهذا الاستثناء تعيّن أن المذمومين هم شعراء المشركين الذين شغلهم الشعر عن سماع القرآن والدخول في الإسلام.
ومعنى : (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) أي كان إقبالهم على القرآن والعبادة أكثر من إقبالهم على الشعر. (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وهم من أسلموا من الشعراء وقالوا الشعر في هجاء المشركين والانتصار للنبي صلىاللهعليهوسلم مثل الذين أسلموا وهاجروا إلى الحبشة ، فقد قالوا شعرا كثيرا في ذم المشركين. وكذلك من أسلموا من الأنصار كعبد الله بن رواحة ، وحسان بن ثابت ومن أسلم بعد من العرب مثل لبيد ، وكعب بن زهير ، وسحيم عبد بني الحسحاس ، وليس ذكر المؤمنين من الشعراء بمقتضي كون بعض السّورة مدنيّا كما تقدم في الكلام على ذلك أول السورة.
وقد دلت الآية على أن للشعر حالتين : حالة مذمومة ، وحالة مأذونة ، فتعين أن ذمه ليس لكونه شعرا ولكن لما حفّ به من معان وأحوال اقتضت المذمة ، فانفتح بالآية للشعر باب قبول ومدح فحقّ على أهل النظر ضبط الأحوال التي تأوي إلى جانب قبوله أو إلى جانب مدحه ، والتي تأوي إلى جانب رفضه. وقد أومأ إلى الحالة الممدوحة قوله : (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ، وإلى الحالة المأذونة قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). وكيف وقد أثنى النبي صلىاللهعليهوسلم على بعض الشعر مما فيه محامد الخصال واستنصت أصحابه
__________________
(١) الجوسق : القصر ، كان أهل البطالة والخلاعة يأوون إلى القصور المتروكة.