فجملة : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) وما عطف عليها مؤكدة لما اقتضته جملة : (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) من ذم الشعراء بطريق فحوى الخطاب.
ومثلت حال الشعراء بحال الهائمين في أودية كثيرة مختلفة لأن الشعراء يقولون في فنون من الشعر من هجاء واعتداء على أعراض الناس ، ومن نسيب وتشبيب بالنساء ، ومدح من يمدحونه رغبة في عطائه وإن كان لا يستحق المدح ، وذمّ من يمنعهم وإن كان من أهل الفضل ، وربما ذمّوا من كانوا يمدحونه ومدحوا من سبق لهم ذمه.
والهيام : هو الحيرة والتردد في المرعى. والواد : المنخفض بين عدوتين. وإنما ترعى الإبل الأودية إذا أقحلت الربى ، والربا أجود كلأ ، فمثّل حال الشعراء بحال الإبل الراعية في الأودية متحيرة ، لأن الشعراء في حرص على القول لاختلاب النفوس.
و (كُلِ) مستعمل في الكثرة. روي أنه اندسّ بعض المزّاحين في زمرة الشعراء عند بعض الخلفاء فعرف الحاجب الشعراء ، وأنكر هذا الذي اندسّ فيهم ، فقال له : هؤلاء الشعراء وأنت من الشعراء؟ قال : بل أنا من الغاوين ، فاستطرفها.
وشفّع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) ، والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب ، والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل : أحسن الشعر أكذبه ، والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذبا لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح ، وإن كان عليه قرينة كان كذبا معتذرا عنه فكان غير محمود.
وفي هذا إبداء للبون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلىاللهعليهوسلم الذي كان لا يقول إلا حقا ولا يصانع ولا يأتي بما يضلّل الأفهام.
ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله :
فبتن بجانبيّ مصرّعات |
|
وبتّ أفضّ أغلاق الختام |
فقال سليمان : قد وجب عليك الحد. فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ). وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب فقال شعرا :
من مبلغ الحسناء أن حليلها |
|
بميسان يسقى في زجاج وحنتم |