القول المنسوب إليه ولا باستفادة الأحوال من مشاهدة الأقوام والبلدان حتى تخطر في نفسه وحتى يعبر عنها بمنطقه الذي علّم سليمان دلالته كما قدمناه. فهذا وحي لسليمان أجراه الله على لسان الهدهد.
وأما قول سليمان (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل : ٢٧] فيجوز أن يكون سليمان خشي أن يكون ذلك الكلام الذي سمعه من تلقاء الهدهد كلاما ألقاه الشيطان من جانب الهدهد ليضلّل سليمان ويفتنه بالبحث عن مملكة موهومة ليسخر به كما يسخر بالمتثائب ، فعزم سليمان على استثبات الخبر بالبحث الذي لا يترك ريبة في صحته خزيا للشيطان.
ولنشتغل الآن بما اشتمل عليه هذا الكلام فابتداؤه ب (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) تنبيه لسليمان بأن في مخلوقات الله ممالك وملوكا تداني ملكه أو تفوقه في بعض أحوال الملك جعله الله مثلا له ، كما جعل علم الخضر مثلا لموسى عليهالسلام لئلا يغتر بانتهاء الأمر إلى ما بلغه هو. وفيه استدعاء لإقباله على ما سيلقى إليه بشراشره لأهمية هذا المطلع في الكلام ، فإن معرفة أحوال الممالك والأمم من أهم ما يعنى به ملوك الصلاح ليكونوا على استعداد بما يفاجئهم من تلقائها ، ولتكون من دواعي الازدياد من العمل النافع للمملكة بالاقتداء بالنافع من أحوال غيرها والانقباض عما في أحوال المملكة من الخلل بمشاهدة آثار مثله في غيرها.
ومن فقرات الوزير ابن الخطيب الأندلسي (١) : فأخبار الأقطار مما تنفق فيه الملوك أسمارها ، وترقم ببديع هالاته أقمارها ، وتستفيد منه حسن السير ، والأمن من الغير ، فتستعين على الدهر بالتجارب .. وتستدل بالشاهد على الغائب اه.
والإحاطة : الاشتمال على الشيء وجعله في حوزة المحيط. وهي هنا مستعارة لاستيعاب العلم بالمعلومات كقوله تعالى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف : ٦٨] فما صدق (بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) معلومات لم يحط بها علم سليمان.
و (سَبَإٍ) : بهمزة في آخره وقد يخفف اسم رجل هو عبّشمس بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. لقب بسبإ. قالوا : لأنه أول من سبى في غزوه. وكان الهمز فيه لتغييره العلمية عن المصدر. وهو جدّ جذم عظيم من أجذام العرب. وذريته كانوا باليمن ثم
__________________
(١) في رسالة من مراسلاته في كتاب «ريحان الكتّاب».