الحضور عنده عملا بقوله : (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١].
ثم يحتمل أن يكون سليمان قال ذلك بعد أن حطت رحال الملكة في مدينة أورشليم وقبل أن تتهيّأ للدخول على الملك ، أو حين جاءه الخبر بأنها شارفت المدينة فأراد أن يحضر لها عرشها قبل أن تدخل عليه ليريها مقدرة أهل دولته.
وقد يكون عرشها محمولا معها في رحالها جاءت به معها لتجلس عليه خشية أن لا يهيئ لها سليمان عرشا ، فإن للملوك تقادير وظنونا يحترزون منها خشية الغضاضة.
وقوله : (آتِيكَ) يجوز أن يكون فعلا مضارعا من أتى ، وأن يكون اسم فاعل منه ، والباء على الاحتمالين للتعدية. ولمّا علم سليمان بأنها ستحضر عنده أراد أن يبهتها بإحضار عرشها الذي تفتخر به وتعده نادرة الدنيا ، فخاطب ملأه ليظهر منهم منتهى علمهم وقوتهم. فالباء في (بِعَرْشِها) كالباء في قوله : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ) [النمل : ٣٧] تحتمل الوجهين.
وجملة : (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا) مستأنفة ابتداء لجزء من قصة. وجملة : (قالَ عِفْرِيتٌ) واقعة موقع جواب المحاورة ففصلت على أسلوب المحاورات كما تقدم غير مرة. وجملة : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) أيضا جواب محاورة.
ومعنى (عِفْرِيتٌ) حسبما يستخلص من مختلف كلمات أهل اللغة أنه اسم للشديد الذي لا يصاب ولا ينال ، فهو يتّقى لشره. وأصله اسم لعتاة الجن ، ويوصف به الناس على معنى التشبيه.
و (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) رجل من أهل الحكمة من حاشية سليمان.
و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْكِتابِ) ابتدائية ، أي عنده علم مكتسب من الكتب ، أي من الحكمة ، وليس المراد بالكتاب التوراة. وقد عدّ في سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع أحد عشر رجلا أهل خاصة سليمان بأسمائهم وذكر أهل التفسير والقصص أن : (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هو «آصف بن برخيا» وأنه كان وزير سليمان.
وارتداد الطرف حقيقته : رجوع تحديق العين من جهة منظورة تحول عنها لحظة. وعبر عنه بالارتداد لأنهم يعبرون عن النظر بإرسال الطرف وإرسال النظر فكان الارتداد استعارة مبنية على ذلك.