وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة ، وأن الحكمة مكتسبة لقوله : (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) ، وأن قوة العناصر طبيعة فيها ، وأن الاكتساب بالعلم طريق لاستخدام القوى التي لا تستطيع استخدام بعضها بعضا. فذكر في هذه القصة مثلا لتغلب العلم على القوة. ولما كان هذان الرجلان مسخرين لسليمان كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القوى. ومقام نبوته يترفع عن أن يباشر بنفسه الإتيان بعرش بلقيس.
والظاهر أن قوله : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) وقوله : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) مثلان في السرعة والأسرعية ، والضمير البارز في (رَآهُ) يعود إلى العرش.
والاستقرار : التمكن في الأرض وهو مبالغة في القرار. وهذا استقرار خاص هو غير الاستقرار العام المرادف للكون ، وهو الاستقرار الذي يقدر في الإخبار عن المبتدأ بالظرف والمجرور ليكون متعلّقا بهما إذا وقعا خبرا أو وقعا حالا ، إذ يقدر (كائن) أو (مستقر) فإن ذلك الاستقرار ليس شأنه أن يصرح به. وابن عطية جعله في الآية من إظهار المقدر وهو بعيد.
ولما ذكر الفضل أضافه إلى الله بعنوان كونه ربّه لإظهار أن فضله عليه عظيم إذ هو عبد ربه. فليس إحسان الله إليه إلا فضلا محضا ، ولم يشتغل سليمان حين أحضر له العرش بأن يبتهج بسلطانه ولا بمقدرة رجاله ولكنه انصرف إلى شكر الله تعالى على ما منحه من فضل وأعطاه من جند مسخرين بالعلم والقوة ، فمزايا جميعهم وفضلهم راجع إلى تفضيله.
وضرب حكمة خلقية دينية وهي : (مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) ؛ فكل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن عمله إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا ، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع الله بشيء من ذلك.
فالكلام في قوله : (يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لام الأجل وليست اللام التي يعدى بها فعل الشكر في نحو (وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة : ١٥٢]. والمراد ب (مَنْ كَفَرَ) من كفر فضل الله عليه بأن عبد غير الله ، فإن الله غني عن شكره وهو كريم في إمهاله ورزقه في هذه الدنيا. وقد تقدم عند قوله فيما تقدم : (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) [النمل : ١٩].
والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) دون أن يقول :