حسب زعمهم فوق المقاييس الماديّة.
هذا ومع تكريزهم على التثليث في جميع أدوارهم وعصورهم يعتبرون أنفسهم موحّدين غير مشركين ، وأنَّ الإله في عين كونه واحداً ثلاثة ، ومع كونه ثلاثة واحدٌ أيضاً. وقد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين ، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه وأقصى ما عندهم ما يلي :
إنَّ تجارب البشر مقصورة على المحدود ، فإذا قال الله بأنَّ طبيعته غير محدودة تتألّف من ثلاثة أشخاص لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه ، بل يكفي في ذلك ورود الوحي به ، وإنَّ هؤلاء الثلاثة يشكّلون بصورة جماعية « الطبيعة الإلهية اللامحدودة » وكل واحد منهم في عين تشخّصه وتميزّه عن الآخرين ، ليس بمنفصل ولا متميّز عنهم ، رغم أنّه ليست بينهم أية شركة في الاُلوهية ، بل كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الاُلوهية ، فالأب مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة وكاملها من دون نقصان ، والإبن كذلك مالك بانفراده لتمام الاُلوهيّة ، وروح القدس هو أيضاً مالك بانفراده لكمال الألوهيّة ، وانّ الألوهيّة في كل واحد متحقّقة بتمامها دون نقصان.
هذه العبارات وما يشابهها توحي بأنّهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الإستدلال والبرهنة العقلية ، وأنّها بالتالي « منطقة محرّمة على العقل » ، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال ، بل المستند في ذلك هو الوحي والنقل.
ويلاحظ عليه أوّلاً : وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطارقة ومن فوقهم أو دونهم من القسّيسين ، إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنّه متشخّص ومتميّز عن البقية ، وفي الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحداً حقيقة لا مجازاً. أفيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل ، فإنَّ التَمَيّز والتشخص آية التعدّد ، والوحدة الحقيقية آية رفعهما ، فكيف يجتمعان ؟