موقع قوّة دون أن يقطع العلاقة معهم بحيث لا يترك لنفسه مجالا للدعوة ، ولا لهم مجالا للرجوع إلى الحق ... وهذا ما ينبغي للداعية أن يعيشه في نفسه من أخلاق واسعة كريمة في أسلوب الدعوة ، وفي صفات الشخصية الرسالية التي لا تملك مزاجها الذاتي في حرية الحركة من جهة الفعل وردّ الفعل ، بل تخضع في مشاعرها وأحاسيسها وحركتها المزاجية لمصلحة الرسالة وروحية الانفتاح على الناس من خلالها ، بالعقل المفتوح ، والصدر الواسع ، والقلب الكبير ، والسلبية التي تمتزج بالإيجابية.
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) من هؤلاء المكذبين برسالتك الذين يملكون النعمة في حياتهم ، بفضل ما أعطيتهم من مال أو جاه ، جعلوه أساسا للتمرد على الرسالات ، فلا تشغل نفسك بهم وبالطريقة التي يمكن أن تواجه فيها مواقفهم السلبية العدوانية ، فإن جزاءهم على الله الذي قد يتركهم مدّة تبعا للحكمة في التأخير ، ولكنهم لا يفوتونه ، مهما طال الزمن ، (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) فسوف يأتيهم العذاب والذلّ في الدنيا قبل الآخرة ، وقد ذكر في كتب التفسير أنه لم يكن إلا اليسير من الزمن حتى كانت وقعة بدر التي أهلكت الكثير منهم ، والله العالم.
* * *
جزاء المتقوّلين المكذّبين
(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي قيودا في الآخرة عظاما لا تفك أبدا ـ كما قيل ـ أو أغلالا ، (وَجَحِيماً) بما تمثله نار جهنم من إيحاءات العذاب ، (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) وقيل إنه الشوك الذي يأخذ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج ، وقيل إنه طعام يأخذ بالحلق لخشونته وشدة تكرّهه ، (وَعَذاباً أَلِيماً) أي عقابا موجعا ، ينزله الله بهم في يوم القيامة ، (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) في زلزالها الهائل الشديد (وَكانَتِ الْجِبالُ) التي تضطرب حتى تزول من مكانها بالرغم من قوتها وصلابتها ،